في الاختيار الإنساني


 

الكاتبة غلاء أنس

"اسمك؟ (بعد أن أخذ بصمة الوجه)"

"محمد عمر أحمد الكحلوت"

"إيش بتشتغل؟"

"قلتُله: مُمرض"

تمتلئ عيناه بالدموع، ويتابع بصوت مرتعش يملأه القهر:

 "وفي هذي اللحظة انهالوا بالضرب على الوجه بالمعدات، وبكل ما هو مؤلم"

إجهاش بالبكاء بصوت تملأه الخيبة والشعور بالخذلان واستلاب الكرامة الإنسانية، يتابع:

"قاموا بالتحقيق حوالي 10 دقائق، ثم تركوني، سمعتُ الكلاب وأصوات زملائي وهم يُضربون، أطلقوا الكلاب على زملائي الذين تم أخذهم، بعد ذلك انسحبوا من المكان، وأعادوا القص\ف مرة ثانية، حتى الساعة الخامسة، وهذا ما حدث" 

يُنهي الحديث بصوت مرتعش باكٍ، عاتبٍ يملأه الغضب:

"حسبي الله ونعم الوكيل على كل من تركنا ومن خذلنا"

هذه شهادة مُمرض من المستشفى الأندونيسي، ظهر باكياً، غاضباً، مخذولاً، يملأه القهر وتتصاعد الغصة في حلقه ليظهر صوته مختنقاً (تجدون المقطع على اليوتيوب).

عام 1954، نشر ماسلو كتابه الشهير "الدافع والشخصية"، والذي تشرفتُ بترجمته عن الإنجليزية مع دار القلم العربي، قدَّم فيه تصوراً عن "الوضع الطبيعي" للمجتمعات البشرية، والمتمثل في حاجاتٍ متتابعة تتلو بعضها، يحتاجها الإنسان في حياته بحكم كونه إنساناً ببساطة، لم يضعها في هرمٍ ولا مثلث، بل فعل ذلك من جاؤوا من بعده، ولهذا أهمية كبيرة سأوردها نهاية حديثي هنا.

تحدث ماسلو عن الحاجات الإنسانية من أدناها إلى أعلاها، والتي يعتمدها الإنسان في حالته الطبيعية العامة، فأولاً يحتاج الإنسان أن يأكل ويشرب ليضمن بقاءه على قيد الحياة، وهذه أكثر الحاجات ضرورة وأهمية، ومن ثم يحتاج أن يشعر بالأمان، دون أن يُسجن أو يُحبس أو يُهدد أو يُسلب، دون أن يتعرض للإجبار أو القهر أو التهديد المباشر لحياته أو حياة عائلته، وعند تحقق هذه الحاجات، ينطلق المرء إلى إشباع حاجته في العلاقات الاجتماعية، فيكوِّن الصداقات، ويدخل في العلاقات، وينضمُّ إلى نوادٍ ومجموعات وربما طوائف ومذاهب وأديان، أي إلى كيانات تتعداه، فيشعر أنه جزء صغير منها، متكاتف مع البقية ليشكلوا الصورة الكبرى لها.

ومن ثم، سيحتاج المرء إلى التقدير من الآخرين، إلى أن يتم احترامه واحترام مكانته الاجتماعية، فيسعى إلى تلميع صورته وتحسين سمعته وتجميل مكانته ورفعها في عيون البقية، يحتاج أن يشغل مكانة اجتماعية تضمن له قدراً من الاحترام لا ينقص.

وأخيراً، فإن المرء عند إشباع هذه الحاجات جميعاً، فإنه ينطلق إلى تحقيق ذاته، أي العمل على مشروعٍ يضع فيه نفسه وفكره وتصوراته وأفكاره وآرائه وجهده المطول، ليخرج بإنجاز يجده عظيماً، ويقدمه إلى المجتمع، أي يستغل القدرة الخلاقة في نفسه، والإبداع الذي تنطوي عليه قدراته، ليخلق في الوجود ما يُعبر عنه ويشير إليه، كأن يؤلف كتاباً أو يؤسس شركة أو ينشئ مدرسة أو ينجز مشروعاً يخصُّ موهبته وبراعته وخبرته، ما قد يتحول إلى مهنة أو حرفة أو مجالٍ يخلقه من جديد.

يتحدث ماسلو عن هذه الحاجات المتراتبة، ويقول بأننا، في الوضع الطبيعي والمتوقع، لا يمكننا أن نقفز عن هذه الحاجات فنُلبي واحدة على حساب الأخرى، أي لا يمكن للجائع والعطشان أن يبدع فكرة ويضع فيها قدراته، ولا يمكن للمُهدد في حياته وعمله أن يسعى إلى حفظ مكانته الاجتماعية، ولا يمكن أن نتوقع من المفتقر إلى العلاقات الاجتماعية الناجحة أن نجده معنياً بإنجاز مشروعٍ يُعبر عنه وينجح بالفعل في ذلك.

وبمعنى آخر، فقد أثبت ماسلو التراتبية لهذه الحاجات، ووضع لنا تصوراً هاماً يجب أن نأخذه بعين الاعتبار لفهم المجتمعات البشرية وتوفير الحياة الكريمة لها، والتي تستحقها.

والآن، والسبب في أن ماسلو لم يثبت هذه الحاجات في هرمٍ أو مثلثٍ أو تراتبٍ صارم، هو حديثه اللاحق عن مفهوم الاختيار الحُر لدى الإنسان، فرغم أنه مفطور ومطبوع على هذه التراتبية بطبيعة تكوينه، إلا أن بإمكانه دائماً الاختيار من بينها، وتلبية بعض الحاجات التي يجدها هامة للغاية، دون الحاجة إلى تلبية الأدنى منها، وهذا أمر يميِّز أصحاب الفكر والثقافة والخيار الحُر في العموم، ومن يجدون في أنفسهم دوراً فاعلاً في حياتهم، ينطلقون منه إلى تشكيل حياتهم بالطريقة التي يريدونها.

ولهذا، نجد أفراداً في مجتمعنا يعتمدون الحياة الزاهدة للغاية والتقشفية، إيماناً بانتمائهم إلى مذهبٍ أو طائفة أو دينٍ معين، يشكلون جزءاً منه، فيفضِّلون تلبية العلاقات الاجتماعية على حاجة الطعام والشراب، ويضحون بالملذات في سبيل فكرة أسمى يتصورونها في أذهانهم، وقد يدفع الفرد منهم أغلى ما لديه، روحه، لنصرة الدين أو الطائفة التي ينتمي إليها.

كما نجد أفراداً يفضلون المعاناة الشديدة من الجوع أو العطش على أن يتم إهانتهم أو سلب كرامتهم الإنسانية، وكثرٌ من قضوا في معارك الإضراب عن الطعام رفضاُ للإهانات المستمرة في حقهم، وسلبهم الحرية التي يرون أنهم يستحقونها، ولا يمكنهم المساومة عليها في حياتهم، فيختارون تلبية حاجة تقدير الذات على الحاجات الفسيولوجية، وحتى تلبيتها على حساب حياتهم حرفياً.

ويمكن للمرء أن يختار دائماً التضحية بسمعته ومكانته الاجتماعية (التي ربما احتلها سابقاً) لأجل تحقيق ذاته في مشروع يجده هاماً، أو أن يرضى بالتضحية بنفسه أو ببعض السنوات من عمره لأجل علاقته بشخص ما، حماية له وللعلاقة التي تجمعهما، كالتضحية الني نجدها بين الأصدقاء أو الأحبة أو الأهل أو حتى بين المنتمين إلى كيانٍ واحد يجمعهم سوية.

 ويمكن للمرء يصدح بكلمة الحق رغم معرفته اليقينية بأنه سيكون مُهدداً ومعرضاُ للخطر في عمله وبيته بل وحياته، لقناعته أن ذلك التعبير الإنساني الذي يُصدره يعبِّر عن كينونته ويحقق فيه جزءاً من ذاته، فيختار الإقدام عليه مضحياً بحريته وبالعديد من الحاجات الهامة الأخرى.

لقد وضع ماسلو تلك التراتبية وشرحها بطريقته الجميلة في الكتاب، ولكنه أردف الكثير من الفقرات بعدها نازعاً عنها رداء الصرامة، مثبتاً الدور الفاعل للإنسان على الدوام، والخيارات التي يتخذها في حياته.

وفي المقطع الذي استهللتُ به حديثي، نرى الخيارات العظيمة التي أقدم عليها الطاقم الطبي، عندما رفضوا الإخلاء وظلوا بالقرب من المرضى، يؤدون واجبهم الإنساني والأخلاقي، رغم أن ذلك يقتضي سلامتهم أولاً، فتعرضوا لامتهان الكرامة والضرب والإذلال على أيدي أشباحٍ غريبة، لا تفقه شيئاً من ألف باء الكينونة الإنسانية، لأن إدراك هذه الكينونة يقتضي بالضرورة التعامل معها بذكاء وحكمة، الأمر الذي نجده غائباً تماماً في الصورة التي نشهدها اليوم جميعاً لدى ذلك .. "الآخر".

إن من المذهل كيف يوضح لنا علم النفس، وإلى جانبه علم الاجتماع، الصورة الكاملة للمشهد أمامنا، فندرك حقيقة الأفراد الذين وضعوا في هذه الخيارات الصعبة، وتفوقوا على أنفسهم مثبتين العنصر الإنساني الأكثر جوهرة فيهم، وهو القدرة على الاختيار.

ولعلَّ هذا يعلِّمنا شيئاً .. بل أشياء كثيرة.


Post a Comment

أحدث أقدم