منارات الإبداع ووهج الوفاء: قراءة نقدية في كتاب "منارات إبداعية" للأستاذ الكاتب رائد وجيه عساف

 


بقلم : د. تهاني رفعت بشارات 


في زمنٍ تعصف به رياح التهميش، وتبهت فيه ملامح الوفاء شيئًا فشيئًا، يأتي كتاب "منارات إبداعية" ليكون كمئذنة شاهقة تضيء فضاء الثقافة العربية، وتبعث في النفوس رجاءً نبيلاً بأنّ للمبدعين في حياتهم من يلتفت إليهم، يقدّر عطاءهم، ويكتب أسماءهم لا على شواهد القبور، بل على صفحات المجد والاعتراف.


إنه ليس مجرد كتاب، بل هو وثيقة وجدانية، ومشروع حضاري، وإضاءة إنسانية سامقة، يقف خلفه قلم شفيف، ينبض بالصدق، ويؤمن بأنّ النبل يبدأ بكلمة شكر تُقال في الوقت المناسب، وأن الوفاء لا قيمة له إن جاء بعد الغياب.


الإهداء: وشاح من الحب يُهدى لغزة ومبدعي الأمة


ما إن يفتح القارئ الكتاب، حتى يلفحه نسيم الإخلاص في الإهداء؛ إذ لا يختبئ الكاتب خلف مجاملات شكلية أو عبارات تقليدية، بل يصوغ إهداءه بدم القلب ونبض الضمير. غزة – مدينة الشموخ والجراح – تتصدر الإهداء، كأنها لؤلؤة مضيئة في تاج هذا العمل. ثم يتجه الكاتب ببوصلته نحو كل مبدع استحق التكريم، وكل من لم يُكرم بعد، مؤكداً أنّ الاعتراف بالجميل ليس فضلاً، بل واجب إنسانيّ وأخلاقيّ لا يسقط بالتقادم.


إن هذا الإهداء ليس افتتاحية، بل أيقونة فلسفية تعبّر عن جوهر الكتاب: أن يكون للمبدع نورٌ في حياته، لا شمعة تُشعل فوق قبره.


اللغة والأسلوب: عزف أدبي على وتر الصدق.

ما يميز أسلوب الأستاذ الكاتب رائد عساف هو تلك اللغة الرقراقة التي تنساب من القلب إلى القلب، دون تكلف ولا تصنع، لكنها مشبعة بالحسّ الأدبي العميق، وبالعذوبة التي لا تنفصل عن الحكمة. هو لا يكتب سيراً باردة، بل يحيك من الكلمات عباءات دافئة تُكسي بها المبدعين وهم أحياء، مانحاً كل شخصية بُعدها الإنساني قبل المهني، مستحضراً صوتها الداخلي، ونبض مسيرتها، وكأنّ القارئ يجلس في حضرة تلك القامة، لا يقرأ عنها من بعيد.


فكرة الكتاب: انتصار للضوء في زمن الظلال


في مجتمعاتٍ تؤرّخ للموتى وتنسى الأحياء، يشقّ هذا الكتاب طريقه كضوء في نفق، يعلن بأنّ التكريم لا يجب أن يكون مرادفاً للفقد، بل امتداداً للحياة. لقد تأسس "الفريق الإبداعي" عام 2014 كمنصة تطوعية، تمارس ثقافة الاعتراف الحيّ، وتؤمن بأنّ الإبداع ليس نُصباً يُشيَّد، بل شجرةٌ تُسقى بالعناية والاحتفاء.


وفي هذا السياق، قدّم الكتاب مئة شخصية، لا كأرقام ٍ جافة، بل ككواكب لها مداراتها، ومساراتها، وبصماتها، من الشعراء الذين نسجوا اللغة من الحنين، إلى الرياضيين الذين كتبوا أسماءهم فوق مضمار الإنجاز، إلى الأطباء، والفنانين، والخطاطين، والمعلمين الذين بنوا حضاراتهم بالحرف والنَفَس الطويل.


قراءات مختارة: حين يكون الإنسان هو الإنجاز


الشاعر محمد خضير

في "منارات إبداعية"، تتوقف الصفحات عند شاعر يكتب بقلب من شغف، وعين من دهشة، وقلم من صدق. محمد خضير شاعر استطاع أن يحوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى قصائد تنبض بالروح، متجذر في الأرض، منفتح على الحلم، يحمل على كتفيه قضية الإنسان العربي، ويغزل من كلماته جسوراً من الأمل. تكريمه لم يكن مجرد عرفان، بل احتفاء بشاعر ينتمي للكلمة الحرة والشعور المتدفق.


الشاعر سعيد يعقوب

من القامات الشعرية التي تألقت في المشهد الثقافي الأردني والعربي، يأتي الشاعر سعيد يعقوب كصوتٍ عذب يحمل على أجنحة شعره عبق التراث، ودفء اللغة، وسمو الحكمة. استطاع أن يجمع بين الجزالة والرشاقة، بين المضمون والوجدان، فاستحق أن يُكرَّم لا فقط لقصائده، بل لأثره في وجدان قرائه الذين يجدون في شعره مرآة الروح.


الشاعر شفيق العطاونة

حين يجتمع الشعر بالثقافة، والموهبة بالرؤية، نجد الشاعر شفيق العطاونة. شاعر لا يكتب بالكلمات فقط، بل بنبضات القلب وإيقاع الروح. وهو ليس فقط مبدعاً شعرياً، بل أحد الأركان الثقافية في الفريق الإبداعي، ترك بصمته في هذا الكتاب كراعٍ أدبي ومرافق حقيقي لكل مكرَّم. كلماته تنبع من أصالة الجنوب وكرامة الكلمة، وتصل إلى عمق الإنسان بصدقها وعذوبتها.


الدكتور صلاح جرار: الشاعر، الأكاديمي، ووزير الثقافة الأسبق


ليس غريباً أن يتقدّم هذا العمل بكلمات من الدكتور صلاح جرار، قامة فكرية وأدبية سامقة، وأحد الأصوات النادرة التي جمعت بين العمق الأكاديمي وحرارة الشعر. قدّم للكتاب مقدمةً بليغةً استعرض فيها الإرث العربي في تكريم العلماء والمبدعين، مؤكداً أن الاحتفاء بالإنجاز هو وجه من وجوه الحضارة، وأن رائد عساف يسير على هذا الدرب النبيل. الدكتور جرار هو ليس مجرد مقدم للكتاب، بل شاهد أصيل على أهمية المشروع ومساند له بفكره ووجدانه.


الدكتور أيمن العتوم:

هو ليس مجرد شاعر وروائي، بل هو قنديل أدبي، ينثر الحبر على جراح الأمة، ويحول القيد إلى قصيدة، والزمن إلى صرخة حرية. لم يكتفِ الفريق الإبداعي بمنحه درعًا، بل سلّط الضوء على عطائه كمناضل بالكلمة، وكخطيب للغة العربية في زمنٍ بدأت فيه الحروف تذبل.


الروائي جلال برجس:

من قوس الهندسة إلى شرفة الأدب، خطا جلال برجس خطواته، حتى اعتلى منصة البوكر. تكريمه لم يكن مديحاً، بل اعترافاً بعقلٍ أبدع وجسرٍ مدّ اللغة من الشرق إلى العالم. لقد كتب له الفريق الإبداعي صفحة من ضوء، تشهد بأنّ الطيران لا يكون فقط بالأجنحة، بل بالكلمات.


الشاعر تيسير الشماسين:

لقّبه النقاد بـ"حكيم الشعراء"، ولم يأتِ هذا اللقب اعتباطًا، بل لأنه حوّل القصيدة إلى مرآةٍ فلسفية تعكس حكمة الحياة. احتفى به الكتاب كمنارة فكر، لا فقط ككاتب أبيات، وجاءت كلماته كأوتارٍ تعزف نغمة الصمت العميق الذي يسبق البصيرة.


معالي الشاعر حيدر محمود:

هو ذاكرة وطن، وصوت أجيال. كتاب "منارات إبداعية" لم يكرّمه كوزير أو مسؤول، بل كمهندس وجداني بنى قلاع الانتماء بالكلمة. جاءت كلماته في الكتاب كرجع صدى لضميرٍ أردنيّ أصيل لا يزال ينبض في وجدان الأمة.

الروائية عنان محروس: صوت الإبداع ومديرة حفل الإشهار

من بين الأسماء اللامعة التي أضاءت فضاء حفل إشهار منارات إبداعية، برزت الروائية عنان محروس كواحدة من الوجوه الثقافية التي تجمع بين الأدب والحضور المجتمعي المميز. هي ليست فقط قلماً سردياً أنيقاً، بل روحاً أدبية مرهفة تدرك جيداً كيف تلامس الكلمة قلب القارئ وتفتح أمامه أبواب التأمل.

تألقت عنان محروس في حفل الإشهار، فكانت مقدمة ومُديرة الحفل باقتدار، جمعت بين الاتزان والذوق، وبين المهنية والإحساس العالي بقيمة الحدث. أسلوبها الرصين وصوتها المفعم بالثقافة منحا المناسبة طابعاً راقياً، يعكس شخصيتها الأدبية المتفردة، ووعيها بأهمية التكريم كفعل ثقافي وإنساني.

عنان محروس، بروائياتها ومقالاتها ومواقفها، تمثل وجهاً مشرقاً من وجوه الأدب النسوي المعاصر في الأردن، وهي شاهد آخر على أن الإبداع لا يتوقف عند النص، بل يمتد إلى الفعل، والتقديم، والإدارة، والانخراط النبيل في المشهد الثقافي.

لكم جميعاً، كل الاحترام والتقدير... وستبقى مناراتكم مشتعلة في الذاكرة والقلب.


اعتذار محب لكل من لم نكتب عنه

وفي هذا المقام، نتوجه بكل الحب والاعتزاز إلى جميع الشخصيات الإبداعية التي وردت في كتاب منارات إبداعية، واللواتي لم يتسنَّ لنا الإضاءة على سيرهن المضيئة في هذا المقال. ضيق المساحة لا يقلل من عمق تقديرنا، فكل من ورد اسمه في هذا السفر الوفيّ هو منارة حقيقية تضيء سماء الوطن.


رسالة الفريق الإبداعي: شمعة ضد العتمة.

ليس سهلاً أن تكرّم، لا سيما في عالمٍ يصفق للصخب وينسى الصمت المضيء. لكن الفريق الإبداعي، بروحه النقية، ومبادئه الواضحة، اختار أن يضيء لكل مبدع شمعة في دربه. لم تكن اختياراته عشوائية، بل بنيت على معايير علمية وجمالية وأخلاقية تُعلي من شأن الإنجاز المرتبط بالمسؤولية المجتمعية.


خاتمة الكتاب: وعدٌ لا ختام

رغم أن الكتاب ختم صفحاته، إلا أنه لم يغلق أبواب المشروع. بل أعلن الكاتب – بروح متواضعة وواثقة – أن هذا الجزء هو نقطة في بحر، لا نهاية في كتاب، وأنه سيواصل طريق التوثيق والتكريم، حاملاً لواء الثقافة النبيلة، في وجه نسيانٍ ثقيل وذاكرة قصيرة.


منارات تضيء القلب قبل العقل


"منارات إبداعية" ليس فقط عنواناً لكتاب، بل فلسفة حياة، ومنهج وفاء، وثقافة اعتراف وجميل. هو دعوة لنا جميعاً أن نعيد ترتيب أولوياتنا الثقافية، فنلتفت لمن يصنعون المجد بصمت، ونكتب عنهم، ونحتفي بهم، ونكرّمهم قبل أن يطويهم الظل.


رائد عساف، لم يكتب حروفاً، بل زرع منارات في خصر العتمة. فله التقدير كله، ولكل من شاركه الحلم حتى صار حقيقة. هذا العمل لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُعاد إليه، كما يعود الظمآن إلى النبع، وكما يعود المسافر إلى الضوء بعد طول سفر.


رائعٌ أنت أيها الكاتب الأستاذ رائد عساف، فقد منحت للثقافة العربية قبساً من الوفاء، وحولت الكلمات إلى شرفاتٍ يطل منها المبدعون على مجدهم وهم أحياء.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology