وادي الفراشات: مقبرة تحتضن الأحلام



بقلم لميس نبيل


ليست وادي الفراشات رواية تقليدية بقدر ما هي تأريخ خفيّ لواحدة من أقسى التجارب التي عصفت بجيلٍ كاملٍ من أبناء العراق. كتبها أزهر جرجيس بأسلوبٍ ساخرٍ لا يخفف الألم بل يكشفه، لا يواسي القارئ بل يُشركه في خيبة البطل، ويجعله يبتسم خلال غرقه في الأسى.

في عام 1990، طُبِّق على العراق حصار شامل استمر ثلاثة عشر عامًا، أقفل فيه العالم أبوابه، وتحوّلت البلاد إلى جزيرة من العزلة والجوع والخذلان. كانت سنوات الحصار أشبه بسحابة سوداء طويلة، غطّت البلاد ومنعت عنها نور الحياة. لم يتوقف الأمر عند شحّ الغذاء والدواء، بل انعدم الأمل، وتحوّلت النجاة إلى معجزة يومية.

في ذلك الزمن، وُلدت حكاية عزيز عواد، بطل الرواية المنحوس الذي لم يكن له من اسمه نصيب. تخلّى عن الكثير من أحلامه، واختار دراسة الفنون، لا شغفًا بل لأن درجاته لم تمنحه رفاهية الاختيار. يقع في غرام زميلته تمارا، لكنّ الحب في زمن الموت ترف لا يليق بالجميع، والزواج مغامرة محفوفة بالعجز والمخاطر.

حياة عزيز في الرواية عبارة عن سلسلة من الهزائم المتتالية: من الدراسة، إلى العمل، إلى الحُب، إلى الأبوة. كل بابٍ طرقه، وُجد خلفه فراغٌ أو خيبة. لكن رغم ذلك، لم يتخلّ عن المحاولة. إنّه نموذج الإنسان الذي يُصِرّ على أن يكون، حتى وإن كانت الحياة تُصرّ على أن لا تترك له مكانًا.

وفي قلب الفوضى والخراب، تظهر المكتبة كفعل مقاومة، والخال جبران كظلّ لحكمةٍ لا تدّعي امتلاك الحقيقة، لكنها تعرف كيف تنجو. لا يُنقذ جبران ابن أخته فحسب، بل يُنقذ القارئ ويُنصفه في عدة فصول من اليأس الذي لا يفارق عزيز. 

حين تصل الرواية إلى نهايتها، لا تمضي إلى الخلاص، بل إلى عمق الكمد. إذ يجد عزيز نفسه في مقبرة غريبة يقوده إليها درويش، حيث تتحوّل أرواح الأطفال المشردين إلى فراشات تحلّق في السماء. هي رمزية عذبة ومرّة في آنٍ واحد؛ كأن الكاتب يريد أن يقول: حتى الموت في هذه البلاد، يمكن أن يُحَوّل إلى معنى، إن لم يكن للحياة، فللذاكرة.

هذه المقبرة، وادي الفراشات، ليست مدفناً فقط، بل ملجأ أخير للذين لم تمنحهم الحياة فرصة العيش. فبين الهذيان والحنين، بين الفقد والإصرار، بين الحب الذي لم يكتمل، والطفل المفقود، تتلخص حياة عزيز ومن ورائه، جيل بأكمله.

ما فعله أزهر جرجيس ليس تمجيدًا للألم، بل محاولته الأدبية لتدوين الهزيمة الإنسانية بوجه ناعم من السخرية. سخرية لا تُبطل المأساة، بل تفضحها. إنّه يُعرّي الواقع من تبريراته، ويقدّم شخصياته كما هي: مرتبكة، عاجزة، خائفة، لكنها في الوقت ذاته حقيقية ومليئة بالحياة.

إنّ وادي الفراشات ليست رواية عن الحصار فحسب، بل عن الإنسان الذي ظلّ يركض رغم القيود، ويبحث عن الدفء في مكتبة، عن الحب في زميلة، وعن الخلاص في مقبرة خيالية. رواية تنحني احترامًا لأولئك الذين لم يكتب لهم أن يكبروا، وللذين بقوا، يجرّون حكاياتهم على رصيف الأمل.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology