بقلم رنا مرعي الطويل
في زمنٍ كانت فيه الأرض رحبةً بما يكفي لأحلامنا، صارت اليوم تضيق بنا حتى كأن جدرانها تطبق على صدورنا. لم تعد المسافات الممتدة، ولا البحار المفتوحة، ولا السماء الواسعة، قادرة على احتواء أنيننا. صارت أوطاننا ساحةً للدمار، وأحلامنا غبارًا تذروه رياح الحروب.
كل صباحٍ تشرق فيه الشمس، تشرق على مدنٍ مدمرة، وأرواحٍ مشتتة، وقلوبٍ تقاتل للبقاء. أصبحنا نعدّ أيامنا لا بما نعيشه من إنجازات، بل بما نخسره من أحبة، بما نخسره من أحلام كنا نظنها قاب قوسين أو أدنى.
في ظل الحروب الدائرة حولنا، في كل بقعة من هذه الأرض المبتلاة، لم نعد نجد في القادم إلا المزيد من الفقد، المزيد من الخوف، والمزيد من التشبث بحبالٍ بالية من الأمل.
الحرب لا تنهي حياة من يسقطون وحدهم، بل تسرق أرواح الأحياء قبل موتهم. تسرق قدرتنا على الحلم، وشجاعتنا على المحاولة. كيف لنا أن نحلم، والدمار حولنا يكاد يلتهم كل حلم قبل أن يولد؟ كيف لنا أن نحيا، ونحن نعلم أن الخطوة القادمة قد تكون نحو هاويةٍ لا قرار لها؟
ضاقت علينا الأرض بما رحبت، لأن الألم صار أوسع من مساحاتها، ولأن الخوف امتد حتى احتل كل ركنٍ فيها. بتنا نحمل أوطاننا في دموعنا، ونحمل جراحنا في صمتنا، ونحمل قلوبنا مثقلةً برعب لا نفصح عنه إلا عبر تنهيدةٍ عابرة.
لم نعد نقوى على مواجهة القادم، لأن القادم ذاته صار غامضًا، قاتمًا، محمّلًا بالمزيد من الألم المعلّق فوق رؤوسنا كسيف لا يعرف الرحمة. كلما حاولنا الوقوف من تحت ركام الهزائم، سقطنا مجددًا بثقل جراحٍ لم تجد لها مداويًا.
ومع ذلك، رغم كل هذا الألم، يبقى في قلوبنا ومضات صغيرة من الإيمان بأن فجرًا سيأتي، مهما طال ليل الحرب. يبقى في أرواحنا حنين لطفولةٍ ضاعت، وحلمٌ بعالمٍ يستحق أن نحيا فيه بكرامة.
يا أرضنا…
ضاقت علينا رحابكِ، ونحن الذين حملناكِ وطنًا وحلمًا.
صرنا نسير فوقكِ خائفين، نبحث فيكِ عن ركنٍ آمن فلا نجد، نحمل على أكتافنا ذكريات الأوطان، وأحلامًا لم تجد أين تغرس جذورها.
ومع ذلك، أيتها الأرض العتيقة، لا تزال قلوبنا تهمس لكِ في الليل البهيم:
“اصبري معنا… فقد تعبنا، ونرجو أن يكون في رحم هذا الضيق ولادة لفجرٍ جديد.”