في الحرب

  


الكاتبة ربى حسين حسنين


أن تعيشَ بالحربِ لا يعني أنكَ لن تخافَ من الموتِ، بالرغمِ من قوةِ الإيمانِ لديكَ إلا أنكَ ستشعرُ بالخوفِ نوعاً ما... 

كانت عائلتي بجانبي أبي وأمي وإخوتي الصغارِ وأنا أكبرهم

كنا نحتضنُ بعضَنا البعض لنخففَ هلعَنا، لم نكن نخافُ منَ الموتِ بسببِ قضيتِنا الشريفةِ بل كلما خطرَ في بالِنا أن نفقدَ أحداً ونبقى على قيدِ الحياةِ هذا ما كانَ يخيفُنا.. أن نموتَ جميعاً خيرٌ من أن يبقى أحدُنا وحيداً. 

غطانا الليلُ بوشاحِه الأسود ، ليس لدينا كهرباء ولا حتى أي شيءٍ ينيرُ عتمةَ أعينِنَا، لم يكن لدينا سوى نورُ احتضانِنَا، وهذا ما كانَ يبعثُ للاطمئنان

بدأَ أبي كالمعتادِ يهدأُ من روعِنا وأمي تذكرُنا بالأدعيةِ والقليلِ من آياتِ القرآنِ وأنا أمسحُ دموعَ اخوتي الصغارِ وأقولُ لهم :"معلش خليك زلمة" 

ومعَ كلِ ضربةٍ يوصلُها الهواءُ لسمعِنا يزدادُ تعلقُنا ببعضِنا حتى كادت أن تصبحَ أجسادُنا جسداً واحداً، ومعَ كلِ إحمرارِ السماءِ تنطقُ شفاهُنا ب"أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله" 

ياه إنها الحرب..... 

بدأنا نسمعُ صراخَ الناسِ وخُيِّلَ لي كأنه أنينُ أرواحِ القيامةِ، لكن عَلِقَ بصري بضوءٍ يكبرُ أكثرَ فأكثرَ اتجاهَنا، حبسَ عقلي أنفاسَهُ لخمسِ ثوانٍ وسرحَ في هذا الضوءِ

من أينَ يأتي هذا النورُ؟ هل هذهِ نهايةُ الحياةِ..النهاية؟ 

استيقظَ عقلي من هلوستِه عندَ كلمةِ "النهاية". 

تشبثتُ بأخوتِي حتى بدأتُ بالرغمِ من أنَّهم في جسدي إلا أنَّنِي لم أعدْ أراهُم... 

عمَّ الدخانُ فجأةً من حيثُ لا ندري، ثمَّ بدأتِ الاشياءُ من حولِنا تتطايرُ وصراخُنا يعمُ المكانَ... وقد غابَ عقلي عني 

استيقظتُ وكأنني كنتُ قد غفوتُ قليلاً، لا أستوعبُ أيَّ شيءٍ، لا أستطيعُ التحركَ، هناكَ شيءٌ فوقَ جسدي، هل هم اخوتِي، أبي أم أمي؟ 

يبدو كأنها صخورٌ والترابُ في فمي، عينايَ.. إذنايَ.. وبينَ أصابعي، لا أرى أيَّ شيءٍ، هناكَ ألمٌ في جميعِ أنحاءِ جسدي 

حاولتُ أن أستجمعَ قوايَ حتى أرفعَ يدي وأمسحَ وجهي، بدأ الألمُ يتزايدُ، هناكَ شيٌ قربَ عينيَ اليسارِ التي ما زلتُ أشعرُ بها أما عينيَ الأخرى فلااااا...

يا لأنانيةِ غيبوبتي فقد سرقَت روحي من نفسي وكأنَّها تصارعُ وتبثتُ الموتَ بداخلي. 

 هل الموتُ بذورُ الرحمةِ يزرعُها في جسدي؟ أم أن الحياةَ قد ملَّت من التمسّكِ بي؟ 


ومعَ مرورِ الوقتِ، لا أعلمُ كم منَ الزمنِ مضى، ولكن كنتُ قد عدتُ إلى رشدي مدركةً جزءً من ما حلَّ بي، وعادَ إليَ وجعي مصاحباً قلةَ حيلتي ، أما أطرافي فما زلتُ أشعرُ ببرودَتِها....

بقيتُ تحتَ الأنقاضِ أواجهُ الموتَ بجميعِ أشكالِه، وأعدُ الوقتَ بأنفاسي، بدأتُ أتخلَّى عن شعوري، لأنزعَ ما تبقى من بعضِي


صوتُ قلبي أصبحَ يحادثُني : "اغفري لي إن غاردتني الحياةُ من داخلي عند أولِ اغماضِ عينٍ لي، وسامحيني إن غادرتُ معها، فما عادت الحياةُ من حولي تتمسكُ بي"


فظهرت الذكرياتُ صوراً معلقةً في أحداقِ عقلي.. 

"هنا أمي تخبزُ القمحَ بأناملِها المجعدةِ، وأبي يحصدُ التعبَ ليُحضرهُ فرحةً لأعينِنَا، وأخواتي الصغارُ يلعبونَ بطفولتهِم الممزقةِ، وأنا أسرحُ بهذهِ الدنيا، أترقبُ خطواتِ الأملِ لأنسجَها أثواباً نلبَسها في أيامِنا "


تلكَ الذكرياتُ أضعفتني وأضعفت عينَيَّ حتى أحرقَتني، حينها تمنيتُ لو يَخطفُني البينُ أخيراً.. 


صوتُ شابٍ من بعيدٍ يصرخُ الأملَ بقوةٍ :" في حدا هون "

يااااااه كم جميلٌ هذا الأملُ وكأنها اغنيتي المفضلةُ أسمعُها فتطيبُ مسامعها هدوءً واسترخاءً، أسمعُها فتعالجُ جروحي الحياة... 


أسعفوني إلى المستشفى ولم يخبروني ما حلَّ بعائلتي، كلُ الذي كانوا يخبرونَني به بأنِّي على ما يرام وأنَّ كلَّ شيءٍ سيصبحُ بخير... 


جاء إليَّ طبيبٌ وعرَّفَ عن نفسِه، فقلتُ له :"أريدُ أمي... أريدُ أبي... أينَ إخوتي؟" 

فقالَ لي:" دعيني يا بنيتي أولاً أعالجُ عينيكِ حتى تستطيعينَ رؤيتَهم، ولكن سأكونُ صريحاً قليلاً.. عيناكِ متضررتانِ بشكلٍ كبيرٍ وهناكَ احتمالٌ صغيرٌ بأن تفقدي بصرَكِ، فاجعلي يقينَك باللهِ كبيراً بأنه لا يعطيكِ إلا الخير. 

قلتُ لا بأس.... 

استمرت عمليتي لأربعِ ساعاتٍ دونَ انقطاعٍ وبلا تخديرٍ، وكأنَّ الألمَ ذئبٌ مسعورٌ جاءَ يبحثُ عن ليلى لينهشَ عِظامَها دونَ رحمة. 

أيشعرُ  بغرزِ السهامِ من كانَ قلبُه مثقوباً؟ 


فقد تصالحتُ مع الألمِ منذُ أن كنتُ طفلةً، حتى أصبحَ صديقي الوفي، لا أصارِعُهُ ولا يصارعُني، نمشي سوياً نحوَ هذا الدربِ الطويلِ... الطويل. 

وجدتُ نفسي في غرفةٍ لستُ وحيدةً، فالصراخُ هنا لا يتنهي وكأنَّ صديقي أحبَّ الوجودَ ليسَ بجانبي فقط وإنما لدى الجميع. 

وكل لحظةٍ يغردُ لي صديقي كطائرٍ مغرورٍ، قلتُ له "ألم تملَّ من مصاحبَتي، اذهب فدعني وحيدة".... يا له من صديقٍ وفيٍّ لم  يدعْني 

حضرَ الطبيبُ يتفقدُني، لينزِعَ عني الضِماد، 

ومعَ كلِ لفةٍ تندفعُ الأحداثُ وكأنها خيولٌ تتسابقُ مع أنفاسي، يجلدُ صاحبُها جلودَها لتسرعَ نحوَ الأوردةِ، تضخُ الدمَ في قلبي وترسلُهُ إلى عقلي ليصبحَ رائدَ فضاءٍ يسبحُ في مجهولِ الذكريات. 

أخذتُ تنهيدةً يتيمةً فصلبتْ كلماتي على أشرعتِها حتى غرقتْ في جوفِ فمي وانطلقتُ كَ رامٍ ينصبُ عينيهِ نحوَ الطبيب: 


أتذكرُها...نعم أتذكرُها تلكَ اللحظةَ التي أوقفت عقلي حتى كدتُ أدركُ بأن قلبي توقفَ حينَها، لكن لم أتخيلها بأنها ستكونُ سكيناً ستبقى بقلبي مهما تنفستُ، لم أتخيل بأن جسدي هو الذي سيبقى بالنهايةِ على هذهِ الرقعةِ.

أتذكرُها... وأتذكرُ تلكَ الغرفةَ ذاتَ البقعةِ البيضاءَ التي تنفستُ من خلالِها وكانت لي كشعلةٍ أحرقتني بالكاملِ بالرغمِ من أنني لم أكن أرى شيئاً، وبالرغمِ من أنني ما زلتُ لا أرى شيئاً.

  


إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology