الرجل الذي خاطب غيمة

 




بقلم الكاتبة  نسرين مشاعلة 

هناك امرأة تشبهني، هوايتها الهروب من الحاضر، تمضي وقتها متجوّلة بين الأزمنة الغابرة، تطارد شيئًا تدرك جيّدًا أنّها لن تعثر عليه إلّا في الحكايات والأسفار القديمة. 

حدث ذات ترحال أن حطّت أجنحة الخيال في بغداد، عاصمة الدنيا. كانت القناديل لا تنطفئ على الجسور، وتنعكس أضواؤها على دجلة، كأنّها نجوم سقطت من السماء لتقيم عيدًا على صفحة الماء. تجوّلت في أزقّة الأسواق، متتبعةً صوت الحياة في المدينة؛ كانت الأصوات وروائح البهارات والعنبر تتشابك وترسم لها طريقًا مفتوحًا لتكمل المسير في دروب الماضي. 

توقّفت خطواتها أمام بوابة مكتبة، انغمس بصرها في الكتب وهي تُنسج بكل بهاء على الورق القادم من الصين. سمعت وقع خطوات العلماء وهم يتدفّقون نحو ديوان الحكمة والمعرفة، يحملون في أعينهم لهب الشعر وبريق الفلسفة. 

وهناك، من بعيد، لاح لها ظلّ يتجوّل، ظلّ متسلل من أسطورة. مسحورة، راحت تتبعه بلا وعي، مأخوذةً بملامحه التي تنطق بالقوّة. كان في عينيه شعاع لا ينطفئ، يشبه شمسًا لا تعرف الأفول. رأته يقف أمام جيشه الجرّار المتأهّب للحروب، ثم يبسط على منضدة خريطة مملكته الواسعة، كمن يبسط قلبه النابض على الطاولة. 

وفي لحظة تأمّل، رفع بصره إلى السماء وخاطب غيمةً عابرة:

"أمطري حيث شئتِ… فخراجكِ عائدٌ إليّ." 

ارتجفت الروح على صدى صوته، وترنّح قلبها على حافة الزمن، ثم التقت عيناه بعينيها. 

ــ من تكونين؟ سألها بصوت مهيب يهزّ جدار الزمن السحيق، فيُحدث شقوقًا بين عصرين. 

فأجابته همسًا، وهي تحاول أن تخفي ارتجاف صوتها:

ــ أنا امرأة من زمنٍ مظلمٍ لم يأتِ بعد… جئتُ أبحث عن نور، فكان أنت!  لو كنتُ من نساء عصرك، لاكتفيتُ بأن أكون ظلّك. 

مدّ يده نحوها، لكن المسافة ظلّت معلّقة بينهما.

ساد الصمت، وبغداد كلّها بدت كأنّها تُصغي لذلك الوهم الذي لا يُرى حتى في الأحلام. 

ابتسم، تمتم بثقة:

ــ لعلّك تلك الغيمة المتجوّلة في السماء… أمطري في أيّ زمن، فخراجكِ لي. 

ارتبكت ملامحها ثم قالت بصوت واهن:

ــ لم تعد الغيوم تنصت لأحد من بعدك، ولم يعد خراجها سوى مطرٍ أسود. 

قطّب حاجبيه، كاد أن يقول شيئًا، لكن الزمن أغلق أبوابه فجأة. ارتدّت القوافل إلى طرقها، الجنود إلى معسكراتهم، الخرائط إلى أماكنها… وغادر ظله. اختفى كل شيء.

عادت إلى زمنها المظلم، غير أنّ صدى صوته وهو يخاطب غيمة، كان يتردد مع كل نبضة في قلبها. 

ومنذ تلك الليلة، لم تعد تعرف النوم، تتنقّل بين الأزمنة على أمل أن يقودها الترحال مرة أخرى إليه. كأنّ التاريخ صار مرآةً لقلبها، وكأنّ الحب حين يولد في زمن غابر… 

تبقى الروح رحّالة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology