بقلم المهندس عمر أشرف مخرج وممثل مصري
في زمنٍ تتسارع فيه الصور وتتحول فيه الأحلام إلى لقطاتٍ عابرة على شاشة الهاتف، تبقى السينما القصيرة أحد أهم الوسائط التي تمنح الشباب فرصة حقيقية ليحكوا، بطريقتهم، عن العالم كما يرونه هم، لا كما يُملى عليهم أن يروه.
لقد أصبحت الأفلام القصيرة في السنوات الأخيرة أشبه بلغة جيلٍ يبحث عن مساحة للصدق، وسط ضجيج المحتوى السريع والسينما التجارية الثقيلة. هي المساحة التي يلتقي فيها الشغف بالتجريب، والفكرة بالخيال، والحلم بالواقع القاسي.
بدأ شغفي بالسينما منذ أكثر من عشر سنوات، وأنا لا أزال في المدرسة. كنت وقتها أرى العالم بعدسة مختلفة، أراقب الناس بتفاصيلهم الصغيرة، وأتخيل المشاهد في رأسي قبل أن أتعلم أي شيء عن الكاميرات أو المونتاج. كنت أصوّر كل ما تقع عليه عيني، وأجرب، وأخطئ، وأعيد. لم أكن أعرف أن تلك التجارب البسيطة ستكون هي بداية الطريق الحقيقي.
ومع دخولي كلية الهندسة، لم أتخلَّ عن الكاميرا يومًا. كنت أعيش في عالمين متوازيين بين الواقع والحلم.
منذ أول فيلم قصير صنعته، عرفت أن هذا هو الطريق الذي أريد أن أكمل فيه مهما كانت الصعوبات. لم أكن أملك سوى شغفٍ حقيقي، وكاميرا بسيطة، وأصدقاء يشبهونني في الحلم.
تجربتي لم تكن استثناءً، بل هي صورة متكررة لرحلات كثيرة يعيشها صناع الأفلام الشباب اليوم. فالفيلم القصير بالنسبة لجيلنا ليس مجرد مشروع أو خطوة أولى، بل هو وسيلة نجاة، وطريقة لنثبت أن السينما لا تحتاج دائمًا إلى ميزانيات ضخمة كي تكون مؤثرة.
في كل مرة كنت أبدأ فيلمًا جديدًا، كنت أكتشف شيئًا جديدًا عن نفسي وعن الناس. كنت أتعلم أن الفيلم القصير ليس فقط عن الصورة، بل عن الصدق؛ عن تلك اللحظة التي تقول فيها شيئًا حقيقيًا، حتى لو لم يسمعك أحد.
لكن الطريق لم يكن سهلًا. التحديات التي تواجه صناع الأفلام القصيرة كثيرة ومتنوعة. أولها التمويل، فالإنتاج المستقل يعتمد غالبًا على الجهد الشخصي أو دعم محدود جدًا. كثيرون يصنعون أفلامهم من مدخراتهم أو بمساعدة أصدقائهم، فقط لأن لديهم ما يريدون قوله. ثم تأتي مشكلة العرض، فالفيلم القصير، لا يجد طريقًا واضحًا إلى الجمهور. القنوات التلفزيونية لا تعرضه، والمنصات الرقمية تهتم غالبًا بالمحتوى التجاري، والمهرجانات محدودة الفرص. ومع ذلك، يظل صناع الأفلام القصيرة مستمرين، لأنهم ببساطة لا يعرفون طريقًا آخر.
لقد شاهدت بعيني خلال مشاركتي في مهرجانات محلية ودولية، كيف يمكن لفيلمٍ صغير، مصنوع بكاميرا بسيطة، أن يترك أثرًا كبيرًا في الجمهور. أحيانًا لا تتجاوز ميزانية الفيلم ألف جنيه، لكنه يحمل في داخله مشاعر صادقة وتجارب إنسانية لا تُشترى.
حين عرض أحد أفلامي القصيرة لأول مرة أمام جمهور لا يعرفني، شعرت أن كل التعب والقلق والسهر قد تحول فجأة إلى معنى. تلك اللحظة التي ترى فيها الجمهور يتفاعل مع ما صنعته هي من أجمل لحظات الحياة لأي مخرج شاب.
الأفلام القصيرة أيضًا مدرسة حقيقية لتعلّم السينما. فصانع الفيلم القصير يتعامل مع كل التفاصيل بنفسه: الإخراج، المونتاج، الكتابة، إدارة الممثلين، وحتى التسويق. هذا الاحتكاك بكل المراحل يمنحه خبرة لا يمكن أن يكتسبها في أي مكان آخر.
ربما لهذا السبب، نجد أن كثيرًا من المخرجين الكبار اليوم بدأوا طريقهم من فيلمٍ قصيرٍ صغير، لكنه كان كافيًا ليعلنوا به عن أنفسهم.
من خلال رحلتي، أدركت أن السينما ليست كاميرات وإضاءة فقط، بل هي رؤية. كثيرون يعتقدون أن الإمكانيات تصنع المخرج، لكني تعلمت أن الإصرار هو ما يصنعه فعلًا.
لقد واجهت لحظات شعرت فيها أن كل شيء ينهار: حين لا تجد مكانًا للتصوير، أو عندما يتراجع أحد الممثلين في آخر لحظة، أو حين تسمع من يقول لك "الفيلم القصير مش هيوصلك لحاجة".
اليوم، ومع تطور التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى أدوات التصوير والمونتاج، لم يعد هناك مبرر لعدم المحاولة. الهاتف المحمول وحده قادر أن يكون وسيلة لصناعة فيلم مؤثر، طالما الفكرة حقيقية وصادقة.
جيلنا يعيش عصرًا فريدًا: يمكن لأي شاب أن يصنع فيلمه وينشره للعالم في لحظة. لكن هذا الانفتاح يحمل أيضًا مسؤولية، لأن كثرة المحتوى لا تعني بالضرورة وجود جودة. وهنا يأتي التحدي الحقيقي: كيف تصنع شيئًا مختلفًا يترك أثرًا وسط هذا الزحام؟
أعتقد أن دورنا كصناع أفلام شباب هو أن نعيد للسينما روحها الأولى: الحكاية البسيطة الصادقة. نحن لسنا ضد الإنتاج الكبير، لكننا نؤمن أن الفيلم، في جوهره، فكرة تُحكى بصدق.
قد تكون مدة الفيلم خمس دقائق فقط او اقل حتى دقيقة واحدة، لكنها قادرة على لمس قلوب الاف الأشخاص حول العالم.
ورغم أن الطريق لا يزال صعبًا، فإن الأمل موجود. المهرجانات المستقلة في مصر والعالم العربي بدأت تفتح أبوابها أمام الأفلام القصيرة وتمنحها مساحة مستحقة. هناك جمهور بدأ يهتم، وهناك منصات بدأت تعرضها بجدية. لكن ما نحتاجه أكثر هو دعم مؤسسي حقيقي، يؤمن بأن الفيلم القصير ليس “هواية” بل جزء من هوية السينما الحديثة.
في النهاية، أؤمن أن الفيلم القصير هو مرآة روح الشباب: صادق، جريء، بسيط، ومليء بالتفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها أحد.
وأنا، مثل كثيرين من جيلي، سأظل أحاول، ما دام هناك ضوء يمكن أن يلتقط صورة، وما دام هناك إنسان يمكن أن يُلهم فيلمًا جديدًا.
# عمر أشرف: مخرج وممثل ومهندس مصري. تخرّج من كلية الهندسة بجامعة القاهرة. يعمل بشكل مستقل، وقد أخرج وشارك بالتمثيل في أفلام قصيرة عُرضت في مهرجانات، وحصل خلالها على شهادات تقدير. يواصل عمر تطوير مهاراته في صناعة الأفلام والمونتاج والكتابة والتصوير الفوتوغرافي. تشمل اهتماماته أيضًا الاستدامة والثقافة والمتاحف، مما يعكس رؤيته الفنية والفكرية الواسعة.



