نقد مقارن بقلم منال العبادي لرواية شوكة الآلهة للروائي علي شنينات.

 



عبر العصور، تبحث الأعمال الأدبية والفلسفية العظيمة عن إجابات لأسئلة الوجود الإنساني الأزلية، لكن في كل عصر وكل ثقافة تختار بوابة مختلفة لدخول هذا العالم المشترك.


 هذه المقالة تقارن بين ثلاث بوابات"بوابات" وجودية مختلفة (الحرب، الإيمان، الجسد)

 بوابة الحرب والمصير في «الإلياذة» لهوميروس، وبوابة الإيمان والشك في «عزازيل» ليوسف زيدان، وبوابة الجسد والهوية في «شوكة الآلهة» لعلي شنينات، وعلى الرغم من تباعد السياقات الزمانية والمكانية وعرض أهمية السياقات التاريخية والثقافية (اليونان القديمة، المسيحية المبكرة، بلاد الرافدين) دون خلق عائق فإن هذه الأعمال تجتمع في محور واحد هو تحويل المعاناة الإنسانية إلى سؤال وجودي مفتوح.


تطرقت هذه الروايات الثلاثة لمفهوم البطل وخاصة بنقل صورته من البطل الملحمي إلى الإنسان المكسور. 


ففي الإلياذة قدمت الرواية نموذج البطل الجماعي الخارجي (أخيل، هكتور) الذي تُقاس عظمته بانتصاراته وإسقاطاته في ساحة الحرب، إنه صراع من أجل المجد في مواجهة القدر.


أما في عزازيل  تحوّل البطل إلى الفرد الداخلي المنعزل (هيبا)، حيث تنتقل المعركة من ساحة القتال إلى ساحة النفس والضمير، البطل هنا لا يواجه جيوشاً، بل يواجه شكوكه وأسئلته.


لكن شوكة الآلهة قدمت نموذجاً هجيناً ومعقداً، فهي تبدأ من جسد البطل المكسور (آسيبناز) كنقطة مركزية، لتصوّر كيف ينعكس الصراع الخارجي للحضارات (آشور، بابل، مؤاب) على صراع الهوية الداخلي، وكيف يتحول الألم الجسدي إلى بوابة للتحرر النفسي والاجتماعي فكان هنا، الجسد هو ساحة المعركة الأولى والأخيرة.


توجه الخط السردي في كل رواية من الخطية الملحمية إلى تعددية الأصوات في الروايات الثلاثة،


ففي الإلياذة كانت تعتمد على السرد الخطي الملحمي الموجه بسلطة الراوي الكلي العلم(الرواي العليم )،  مما عكس رؤية كونية منظمة، وإن كانت تراجيدية.


لكن يوسف زيدان في عزازيل قام بتحويل السرد إلى السرد الذاتي الانعكاسي (مذكرات هيبا)، مما حول القارئ إلى شاهد مباشر على ارتباك البطل ونضاله الفكري.


لكن شنينات في شوكة الآلهة جعلها تتخذ خطوة أوسع نحو التعددية السردية، حيث تُسمع أصوات عدة شخصيات (ذكورية وأنثوية)، هذا التعدد لا يخدم الحبكة فحسب، بل هو بيان فني بحد ذاته يعكس تفكيك سلطة الرواية الواحدة (الذكورية/الغالبة) وإفساح المجال لروايات مضادة ومهمشة فكان صوت المرأة مسموعا كما الرجل.

وكل ذلك نسج بلغة تشابهت في الإختلاف فمن لغة الملحمة المهيبة إلى لغة المذكرات الحميمية نحو لغة السرد التعددي المتشظي في "شوكة الآلهة".


كان وجود الآلهة والمقدس من التدخل المباشر إلى الشك إلى التشظي وكل رواية عكسته بما يناسبها. 


 ففي الإلياذة، الآلهة فاعلون مباشرون في الصراع، وهم جزء من نظام كوني يعلو على البشر ولكنه ليس معصوماً.

لكن في عزازيل، الإله يصبح موضوع تساؤل، والصراع مع الشك يصبح هو الدينامو الداخلي للرواية، والمقدس هنا هو مساحة شك واقتناص إيمان شخصي.


أما في شوكة الآلهة، نجد أسطرة المقدس وتجسيده؛ فالمقدس ليس قوة علوية فقط، بل هو متجذر في الطقوس والأرض والجسد الأنثوي،فكانت "شوكة الآلهة" نفسها رمزا مزدوجا فهي أداة عذاب وآلة تحرير، مما يذيب الحدود التقليدية بين المقدس والمدنس، القوة والضعف.



"إن هذه المقارنة لا تكشف فقط عن استمرارية السؤال الوجودي، بل تظهر تطور أدوات الفن الروائي في مواجهته، فمن ملحمة الحرب الجماعية، إلى رواية الشك الفردي، تصل بنا «شوكة الآلهة» إلى عصر ما بعد الحداثة حيث تُسائل كل اليقينيات يقينية الجسد، الهوية، الجندر، والرواية التاريخية ذاتها، بإحيائها لأساطير بلاد الرافدين وتوظيفها بلغة سردية معاصرة متعددة الأصوات، لا تقدم الرواية مجرد حكاية من الماضي، بل تخلق حواراً نقدياً مع التراث العالمي (مثل الإلياذة) والعربي (مثل عزازيل)، إنها تثبت أن البوابة الجديدة لفهم المعاناة الإنسانية تكمن في التشظي والتعدد والتهجين، مع الإصرار على أن الأمل، رغم مرارته، يظل إمكانية قائمة في قلب المأساة، هذا الحوار بين الأزمنة والأساليب هو ما يمنح هذه الأعمال، وبالذات «شوكة الآلهة» كعمل جديد، له حيويته وحياته وضمان استمرارهما كمراجع أساسية في مكتبة التساؤل الإنساني."


لماذا ظهرت "شوكة الآلهة" بهذه الخصائص في هذا الوقت بالذات؟ كيف تستجيب لسياق الرواية العربية المعاصرة واهتماماتها بتفكيك التاريخ والهوية والجسد؟


في هذا التحليل الذي ينتقل من الوصف إلى التأويل، ومن المقارنة الثنائية إلى بناء "نموذج تفسيري" (Interpretive Model) يضيء التطور الفني والفكري عبر آلاف السنين، وبأننا لا نكتفي بأن نقول إن الأعمال مختلفة، بل نشرح لماذا اختلفت، وكيف شكل هذا الاختلاف حواراً متراكماً ومستمراً حول الوجود الإنساني.


جاءت شوكة الآلهة كإحياء للحوار بين النصوص والأزمنة، واكتشاف القوة المتجددة للأدب في طرح الأسئلة الكبرى.



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology