الزواوي بغورة يقرأ فوكو: مُراجعة لكتاب "الخطاب: بحث في بُنيته وعلاقاته ومنزلته"

 


غلاء أنس


"يلجأ وصف الأرشيف إلى إبراز الآخر والخارج، ولا يستند التشخيص من هذا القبيل في البرهنة على إثبات هويتنا، إلى ألاعيب التمييز والتفريق، بل يبرهن أننا اختلافٌ، وأن عقلنا هو اختلاف الخطابات، وأن تاريخنا هو اختلاف الأزمنة، أنانا هو اختلاف الأقنعة. وأن الاختلاف، هو أبعد ما يكون عن أصل منسي وخفي، بل هو كذلك التبعثر الذي نحن عليه، أو الذي نقوم به"


الخطاب: بحثٌ في بنيته وعلاقاته ومنزلته في فلسفة ميشيل فوكو – الزواوي بغوره


كتابٌ رائع لقراءة فوكو في معظم كتبه وخطاباته، وتلخيص فلسفته أو اتجاهه التاريخي عامة، وتبيان أهم النقاط التي شكلت توجهه الفكري والمعرفي.

 أحببتُ في الكتاب ترتيب مواضيعه المنطقي وتناوله أفكار فوكو بطريقة سلسة وسهلة (مقارنة بلغة فوكو الصعبة قليلاً)، وأحببتُ في الفيلسوف توجهه الفكري الباحث والبعيد عن تقلد أي حكم أخلاقي مطلق أو عام، فما بحث عنه في حياته هو شروط إنتاج الخطاب والعلاقات التي ترتبط بهذه العملية الطويلة، فكان الطابع الأخلاقي لفلسفته بسيطاً ورفيعاً، نجده ممتزجاً باتجاهه الأدبي والفني.

يُقسم الكتاب إلى ستة أقسام تناولت عناصر هامة في فكر الفيلسوف، فكانت على النحو التالي: اللغة (وعلاقتها بالجنون والأدب والمرض والفلسفة والتأويل والثقافة)، الخطاب (بنيته ومنهجه وسلطته)، الخطاب والمعرفة (في خطاب الجنون والمرض والعلوم وبنية المعارف والحقائق والعلاقة بين السلطة والمعرفة)، الخطاب والسلطة (مفهوم السلطة وبنيتها وعناصرها ودور المثقف في مواجهتها)، الخطاب والذات (كخطاب الجنس والأخلاق والجمال)، وأخيراً الخطاب بين التاريخ والفلسفة (أركيولوحيا الفهم التاريخي والأنطولوجيا التاريخية المتعلقة بالفلسفة)، تبع هذه الأقسام أربع مقالاتٍ سابقة للكاتب تناولت تحليلاً بسيطاً لفلسفة فوكو ومنهجه.

سيقف القارئ على العديد من آراء هذا الفيلسوف المهم، وسيدرك السمة العامة التي تسم توجهه، ففي مسألة اللغة مثلاً، فإنه يتصورها جهاز اختراق خارج عن المنطق، يبرزها الأدب ويحملها إلى المجاز، بعيداً عن الغربة البشعة التي يشعر بها المرء عند محاولته تملكها، وفي مسألة الخطاب، سيدرك أن الفيلسوف يرى التاريخ مجموعة من الخطابات المتعاقبة والمتعلقة بالسلطة ومعرفتها، وأنه معتنٍ أشد العناية بأركيولوجيا المعرفة كوسيلة لدراسة خطابات التاريخ وفهم صيرورتها.

 وفي العلاقات التي رسمها بين العديد من العناصر، أثبت مساره وتوجهه بنفي الذات من التاريخ والبحث في الخطاب المُمارَس في كل حقبة وعصر، وفي العناصر التي يثبتها المجتمع على نفسه (الذات) وتلك التي يرفضها (الآخر)، ليتحقق له منهجه الخاص في النظر إلى التاريخ الإنساني كصيرورة تتحكم بها السلطة والمعرفة التي تنتجها والخطاب الذي تتموضع فيه.

كما سيفهم القارئ مفهوم الانفصال الذي يؤمن به فوكو كمنهج للدراسة الأركيولوجية – الجينيالوجية للتاريخ، بعيداً عن البنيوية والعلائقية بين الظواهر والأحداث، أي أنه يرى التاريخ خطاً من الظواهر والخطابات ولا يراه حقباً زمنية ترتبط ببعضها أفقياً، ولهذا، كانت دراسته لتمثلات السلطة في التاريخ أهمية كبيرة لفهم تمثلاتها اليوم، وعدها مجرد امتداد للصيرورة التاريخية الطبيعية التي وجدنا أنفسنا ننتجها في كل مرة: 

"إن الجينيالوجيا تُسهم في تحليل السلطة، وتأسيس منظور للتاريخ لا يقوم على استعادة الماضي في صورة اتصالية، وإنما على دراسة الحاضر من خلال مختلف علاقات المعرفة – السلطة".

وفي عنايته بالممارسات التاريخية ذات الوظائف المعرفية والاقتصادية والسياسية، كخطاب الجنس والجنون والمرض والجريمة، فقد تمكن فوكو من رسم لوحة تعكس خطوط التطور البشرية في عدة مسارات، والاعتبارات الهامة التي سيَّرت البشر منذ زمن، وجعلتهم خاضعين لها بشكل أو بآخر، ولهذا، يرى العديد من قرائه اليوم أنه دشن اتجاهاً جديداً في فلسفة اللغة، يقوم على دراسة الخطاب المسيطر وتمثلاته، وعلى التداولية التاريخية والمنطوق في الأزمنة السابقة وما رُفع إلى منزلة الأمر والتوجيهات المطلقة.

الكتاب دسمٌ في مادته، ولكنه سلس في لغته ويمكن فهم فوكو عبره دون صعوبة، فالشكر الجزيل للكاتب.


Post a Comment

أحدث أقدم