الكاتبة العنود علي
كلّما هممتُ برفعِ عيني عنها، وجدتُ قلبي يدفعني إليها. اقتربتُ منها، وهمستُ لها:
– كيف حالُكِ؟
رفعت حاجبيها مُتعجبة، ثمّ أردفت:
– أنا بخير.
لم تكن بخير؛ كانت ابنة الأربعة عشر عامًا خائفة... حزينة... تضيق بها هذه الحديقة الواسعة.
تلفّتُّ حولي قبل أن أسألها:
– هل أنتِ وحدكِ هنا؟
– لا، ذهبتْ أمي للتسوّق، وتركتني هنا مع إخوتي الصغار.
وأشارت إلى ثلاثة أطفالٍ يلعبون، لم يتجاوزوا العاشرة من العمر.
جلستُ مقابلها، وقلت:
– مهمةٌ صعبة أن تهتمي بثلاثة أطفال، أليس كذلك؟
– نعم، لكنهم إخوتي؛ أكونُ سعيدةً عندما يكونون سعداء.
شعرتُ أنها تحملُ من الهمِّ أكثر مما كنتُ أتوقع. كانت نظراتها تقول الكثير، ولكن كلّ ما أتمناه ألا يكون ظني في محلّه.
– هل تعرفين يا حبيبتي؟ لو أنجبتُ باكرًا، لكانت ابنتي من جيلكِ الآن... كم ستكون فرحتي حين تكبر ابنتي، وتُصبح فتاةً جميلةً مسؤولة مثلكِ، وتكون صديقتي وسندي.
فجأةً، انفجرت بالبكاء؛ كانت الدموع تجري دون توقف، مُعلنةً عن فقدانها لقوة صبرها وتحملها.
تركتُها تبكي كما تريد، دون أن أضغط عليها. ثم اندفعت، وكأنها كانت تنتظر هذه الفرصة منذ زمن طويل، لتشكو ما في قلبها، وتسكب حزنها أمام شخصٍ غريب لا يعرفها، ولن يبقى معها .
– لماذا عليَّ العيش مع أبٍ سيّئ؟
– الآباء ليسوا سيّئين بمحض إرادتهم.
نظرت إليّ باستخفاف:
– كيف يكون أمامك اختيارات كثيرة، ثم تختار أن تكون أبًا سيئًا؟!
ما الذي يمنعه أن يُحبني؟! أن لا يضربني، ولا يضرب أمي؟!
من سرق إرادته في أن يكون داعمًا ومُحبًّا لي؟!
هل تعرفين؟ أنا لا أُحب الجلوس مع صديقاتي في المدرسة. أجلس دائمًا وحدي.
كلما اجتمعن، كان حديثهن عن آبائهن وحبهم ودلالهم لهن.
أما أنا، فأشعر بالخنقة.
كيف لي أن أتحدث عن أبٍ يضربني ويحقّرني عند أدنى خطأ؟!
والكارثة أنه مقتنع أن هكذا تكون التربية!
لِمَ أنا، يا أستاذة؟!
لِمَ اختارني الله ليعطيني أبًا هكذا؟
أنا أكرهه!
أكره رائحته وشكله، وأشعر بالخوف والألم عندما يدخل إلى البيت.
لكن لا أستطيع أن أعترف بذلك، حتى لا يقولوا عني عاقة.
وأخاف أن يعاقبني الله على مشاعري التي أُكنها له داخلي.
هل سيعاقبني الله لأني أكرهه؟
– لا أعتقد، الله لا ينظر إلينا كما ننظر إلى أنفسنا.
– ماذا يعني؟
– الله أرحم بنا من أنفسنا. هو خلقَ فينا المشاعر كطاقةٍ متبادلة بيننا. والدكِ لم يمنحكِ الحب، فلم تستطيعي أن تمنحيه إياه. هذا كلّ ما في الأمر. وهذا لا علاقة له بالبرّ والعقوق.
نظرت إليّ، وبدأت دموعها تجفّ. تنفّست قليلًا براحة، ثم أردفت:
– ولماذا أنا الوحيدة التي اختارني الله ليعطيني أبًا سيئًا؟!
لو أعطاني أي أبٍ آخر، سيكون أفضل منه!
– أنتِ مُخطئة يا عزيزتي. هناك الملايين في هذا العالم يعانون بسبب أبٍ سيئ، أو أمٍّ سيئة، أو عائلةٍ بأكملها.
لو نشأ الجميع في أسرٍ وفّرت الحب والدعم والاهتمام، هل تتوقّعين أن يكون العالم بهذا السوء؟!
هل تظنّين أنه سيكون هناك حروب ومشاكل وقتل وسلب ونهب واغتصاب؟
شدّها حديثي، وأرخت ظهرها على الكرسي براحة، منتظرةً مني أن أُكمل.
– لو طلبتُ منكِ أن تصفي لي دولة لم تزوريها يومًا، هل تستطيعين؟
– لا.
– أو أن تخبريني عن طعم أكلة لم تتذوّقيها في حياتكِ؟
– مثل السوشي؟
– نعم. هل تستطيعين أن تصفي لي طعمه؟
– بالطبع لا؛ فأنا لم أتذوقه يومًا.
– هذا تمامًا ما أحدثكِ عنه. هل تتوقّعين أن والدكِ عندما كان طفلًا، تلقّى من الحب ما يكفي ليمنحكِ إياه؟
شردت قليلًا، وكأنها تتذكّر تفاصيل لم تكن تهمّها يومًا:
– جدي قاسٍ، ولا يزال قاسيًا، لكنه الآن أصبح يخاف من أبي لأنه عصبي.
أما جدتي، فهي سلبية كأمي؛ تخافه، وترتعد من صوته، وتريد فقط أن تمضي الحياة كما هي.
– ولماذا تتوقّعين أن تتلقّي حبًا ودعمًا من شخص لم يتذوّق الحب يومًا؟
– أشعر أن الموضوع يجب أن يكون عكسيًا؛ طالما عانى من قسوة والده، يجب أن يكون حنونًا علينا، أليس كذلك؟
– ليس بتلك السهولة. أُجزم لكِ أن هذا ما كان يتمناه عندما كان صغيرًا، لكنّه عندما كبر، وجد نفسه نسخة من والده دون أن يقصد.
وإن لم تكوني واعيةً لنفسكِ ولإخوتك، فستُصبحون نسخة منه بعد فترة من الزمن، بنفس القسوة ونفس العصبية.
– مستحيل!
– هذا ما تقولينه لنفسكِ الآن. سأبسط لكِ الأمر:
جميع تصرفات والدكِ وقسوته تتخزّن في عقلكِ الآن، حتى يتقبلها وتُصبح أفعالًا طبيعية بالنسبة له.
عندما تتزوّجين، ستجدين نفسكِ تتصرّفين وفق ما تبرمج عليه عقلك، أو دعينا نقول: ما يعرفه فقط.
– هذا أمر خطير!
يعني أنني، ووالدي، وأبنائي، وأبناء إخوتي، مكتوبٌ علينا حياةٌ مليئة بالقسوة والإهمال؟!
– ليس بالضرورة.
بإمكانكِ أن تغيّري كلّ هذا إن كنتِ واعية.
– كيف؟!
سألتْ بلهفة، وكأنّها تتمسّك بأوّلِ أملٍ ظهر لديها.
ابتسمتُ، وأنا أضعُ يدي على قلبِها بلُطفٍ:
– بأنْ تَبدئي من هُنا، من قلبِكِ.
كلّ مرّةٍ تشعرينَ فيها بالغضبِ أو الحُزنِ أو الخوف، تذكّري أنّكِ لستِ والدَكِ، وأنّكِ تملكينَ الخيار.
كلّ يومٍ تستيقظين فيهِ، هو فرصةٌ جديدةٌ لتكوني مُختلفة؛ لتختاري اللُّطفَ بدلَ القسوة، والحُبّ بدلَ الألم.
– ولكنّ الأمر صعبٌ...
– نعم، صعبٌ، لكنهُ ليسَ مُستحيلًا.
التّغييرُ لا يحدثُ دفعةً واحدة، بل يبدأُ بفكرة، بخطوة، بلحظةِ وعيٍ مثلَ هذه.
ثمّ اقتربتُ منها أكثر، وهمستُ:
– وجرّبي، فقط جرّبي... أن تُمنحي والدكِ القليلَ من الحُبّ الذي حُرِمَ منه، حتى لو لم يشعر به.
ربّما لن يتغيّر، وربّما لن يستوعب، لكنّكِ أنتِ التي ستتغيّرين.
ستنضجين، وستحرّرين قلبكِ من الكَراهية.
الحُبّ لا يُقدَّم دائمًا لأنّ الآخر يستحقه، بل لأنكِ أنتِ تستحقّين قلبًا خفيفًا، لا يُثقله الحقد.
سكتَتْ قليلًا، ثمّ نظرتْ إلى إخوتها من بعيد، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خفيفة، لأول مرّة منذُ بدأت الحديث.
– هل تظنّين أنني أقدر؟
– أنا لا أظنّ فقط، أنا أؤمنُ بذلك... وأنتِ لستِ وحدكِ.
قامت بهدوء، مسحت دموعها، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ ولكن ثابت:
– سأُحاوِل... وسَأنتصر، يومًا ما.
راقبتُها وهي تَركضُ نحو إخوتها، وبين كلّ خُطوةٍ وأخرى، كنتُ أرى طفلةً تنهضُ من رمادها... وتُولَدُ من جديد.