قصص قصيرة للكاتب حسين بن قرين

 


بقلم حسين بن قرين درمشاكي

 كاتب وقاص ليبي

اتحاد


نشأت "ليلى" و"نور"، توأمانِ يجمعهما ذاتُ المصيرِ. نظراتُ الأولى تنبئُ بذكاءٍ وقّادٍ، وجمالُها يسترُ عزيمةً باطنيةً. أما الأخرى، فصمتُها بئرُ أسرارٍ دفينةٍ.


ذاتَ قمرٍ مكتملٍ، في صحراء شاسعة، حيث السراب وهمٌ والرياح حكاياتٌ رمليةٌ عابرةٌ، همستْ توأمها الصامت بكلماتٍ مبهمةٍ عن رابطٍ خفيٍّ ومستقبلهما. لم تكترثْ الفتاةُ ذاتُ الذهنِ المتوقّدِ. لكنَّ الفجرَ كشفَ عن فراغٍ في روحها، وعن قلادةٍ فضيةٍ وحيدةٍ تتألقُ بنقشٍ غامضٍ، تبعثُ شعورًا باهتًا بالأملِ.


وهذا البريق يضيءُ خافتًا طريقَها المتعبَ، ونجوى أختِها صدىً يوجهُ خطاها. بذكائها الحاد وعزيمتها الباطنية التي تجلت في إصرارها، قاومتْ لظى الرِّمالِ ووحشةَ الليالي، وصورةُ توأمِها في قلبها جذوةُ إصرارٍ.


أخيرًا، لاحَ كهفٌ منعزلٌ، وفي جوفِهِ تلكَ المصقولةُ السوداءُ تشعُّ ببريقٍ غامضٍ. نظرتْ إليها، فرأتْ فيها عينينِ تومضانِ بذكاءٍ وسكونٍ، وابتسامةً تجمعُ بين عالمينِ. تلكَ الرؤيةُ كشفتْ عن حقيقةٍ مستترةٍ: "نور" هي الجانبُ الآخرُ من روحها، جوهرُها الصمتُ.


بلمسةٍ خفيفةٍ لها، سرى شعورٌ بالوحدةِ في عروقها، وتدفقتْ فيها قوةٌ لم تعرفْها. في انعكاسها، رأتْ ذات النظرة الثاقبة والابتسامة التي وحدت عالميهما. الجانبُ الآخرُ عادَ، لكنَّ التي عبرتِ القفراء رحلتُها لم تكنْ مجردَ سعيٍ، بل اكتمالًا للذاتِ.


 


 


 


استنكار


مدينةٌ ترتجفُ، ولسعاتُ لهبِ "التحريرِ" على جلدِها. بياضٌ هامدٌ في قلبِ الساحةِ... موتٌ يزفرُ أنفاسَهُ. الوطنُ جاثمٌ، سكونُ قيودِهِ أنينٌ مكتومٌ، وعيناهُ الشاردتانِ تستجديانِ صدى الضجيجِ "الحرِّ". أسنةٌ تلمعُ، ترقصُ بها وعودٌ كاذبةٌ في الهواءِ، وكلُّ وخزةٍ... تكبيرةٌ جوفاءُ!


في الظلِّ، "أملُ"... يتمٌ يقطُرُ من زجاجةٍ فارغةٍ، تحتضنُ شحوبَ عطرِ الأمِّ. عنقُها الضيقُ يخنقُ بقايا عبيرٍ، وكلُّ هتافٍ بالخارجِ، وخزةٌ في قلبِ الأملِ الذابلِ.


سكرةُ نصرٍ هوتْ بقدمٍ، وسكينٌ ملطخةٌ على ميراثِ الطفلةِ. زجاجٌ يتناثرُ... ويفوحُ زفيرُ نفاقٍ آسِنٍ محبوسٍ.


حناجرُ تهوي، وسعالٌ مريرٌ... دليلُ كذبِ الهتافِ. الوطنُ، جرحٌ ينزفُ وجعًا مكتومًا، يُطلقُ آخرَ أنفاسِهِ... شهقةُ إدانةٍ، لا موتٌ. الحريةُ المتعاليةُ، قربانُها الأرواحُ، تكشفُ وجهَها الصدئَ أخيرًا.


 


 


 


نزيف


يُلقون على كتفي عباءة النسيانِ، يهمسون عن فجرٍ كاذبٍ يطلُّ من نافذةٍ مكسورةٍ، بينما روحي مدينةٌ مهجورةٌ تتآكلُ جدرانُها بصمتٍ مُطبقٍ. وحدتي بئرٌ جليديَّةٌ لا قاعَ لها، وكلُّ نبضةٍ فيها صدى ارتطامِ حجرٍ بذاتهِ. دمي ليس أحمرَ قانيًا، بل حبرٌ أسودُ يكتبُ على جلدي خريطةَ وجعٍ لا تنتهي شوارعُها.


أصرخُ بصمتٍ، أُطلقُ كلماتي كبراكينَ مُكبَّلةٍ، تحفرُ في الهواءِ ندوبًا مرئيةً، قصصَ سقوطي الأبديِّ. حروفي ليست أبجديَّةً، بل تراتيلُ جنائزيَّةٌ لروحٍ تحتضرُ ببطءٍ. لا أطلبُ شفقةً، بل أغوصُ في مرآةِ ذاتي الشاحبةِ، أُلامسُ جوهرَ هذا الظلِّ الذي يسكنُني، ربَّما أجدُ فيهِ وجهًا آخرَ لوطني المفقودِ.


أرسمُ عتمتي بمدادِ قلبي الذائبِ، لا استسلامًا، بل بحثًا يائسًا عن ثقبٍ صغيرٍ في هذا السقفِ الأسودِ، عن نجمةٍ خائفةٍ تختبئُ خلف الغيومِ. كتابتي ليست ترفًا، بل شهيقي الأخيرُ وأنا أحملُ وطني جرحًا مفتوحًا ينزفُ في داخلي، وكلُّ كلمةٍ قطرةُ دمٍ مُتجمدةٍ.


 


 


 


رهان


في وطنٍ يئنُّ تحت وطأة الانقسام، تعصَّب شيخانِ متجاورانِ، لكلٍّ منهما أتباعُه. سنواتٌ عجافٌ قضتها أيديولوجياتُهما المتصارعةُ في جدالٍ صاخبٍ، تعوي فيه الولاءاتُ وتتجمدُ القلوبُ.


في ليلةٍ هوجاءَ، ارتجفتِ الأرضُ وتصدَّعتِ السماءُ ببرقٍ لم يعهدوهُ. خرج الشيخانِ وأتباعُهما فزعينَ ليشهدوا زحفَ جيشٍ جرارٍ من الأفقِ، كأسرابِ جرادٍ لا تُبقي. راياتٌ غريبةٌ تلوحُ، وسيوفٌ تبرقُ شرًّا.


نظر شيخُ الشرقِ بغضبٍ: "بلاءٌ جلبتهُ ريحُكمْ من مغربِكمُ المشؤومِ!"


فأجابهُ شيخُ الغربِ بحدةٍ: "بل نذيرُ شؤمٍ أطلقهُ سعيُكمْ نحو الشرقِ!"


فجأةً، اخترقَ سهمٌ غادرٌ شابًّا، فسقطَ قتيلًا، وعيناهُ شاخصتانِ إليهما بتساؤلٍ دامعٍ.


في تلك اللحظةِ، رسمتْ شُهُبٌ متساقطةٌ في العتمةِ صورةَ أسدينِ يتصارعانِ بضراوةٍ، بينما يتربَّصُ بهما ضبعٌ ماكرٌ.


تجمد الشيخانِ. أدركا عبثَ صراعهما على فُتاتٍ، بينما العدوُّ الحقيقيُّ يزحفُ لابتلاعهما معًا.


في صمتٍ مُطبقٍ يعكسُ إدراكًا مريرًا، تلاقتْ نظراتُهما وامتدتْ أيديهما في مصافحةٍ أخيرةٍ قبل الفناءِ.


لكنْ، قبلَ أنْ تنبسَ شفاهُهما بكلمةٍ، انهمرَ سيلٌ من السهامِ، لم يُميِّزْ بين تابعٍ ومناصرٍ. هوى الشيخانِ معًا، لترسمَ دماؤُهما على رمالِ الوطنِ قصةَ الوحدةِ المتأخرةِ.


 


 


 


يقظة


نائمةٌ على جفونها الأبديةِ، المدينةُ، وشرايينُها الطرقاتُ خواءً شفيفاً كذكرىً باهتةٍ. في عتمةٍ مفاجئةٍ، انتفضَ بناءٌ عملاقٌ من غفوتهِ، وبدأَ رحلةً صامتةً، يمضي بجلالٍ نحو نداءِ البحرِ البعيدِ.


 


 


 


انعتاق


في زقاق ضيق ذي جدران متآكلة، عاش رجلٌ. ظِلُّه امتلك حياةً مستقلةً، يراقبه بدهشةٍ وهو يتحرك بتأخُّرٍ، كأنه يفكر مليّاً قبل كلِّ خطوةٍ. ذات ليلةٍ مقمرةٍ، توقف قرينُه فجأةً ثم تحرك وحيداً في الاتجاه المعاكس. حاول اللحاقَ به، لكنَّه ابتعد بثباتٍ. وصل إلى نهاية الزقاق. صعد الجدارَ، مختفياً في العتمة. بقي بلا ظلٍّ، يتساءل: أيُّهما كان الأسيرَ الحقيقيَّ؟





إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology