في حضرة الخذلان

 


بقلم سجى القضاة


في كل ركنٍ من هذا العالم، تتردد كلمات براقة: "العدالة"، "الحقوق"، "الطفولة"، "الإنسانية". شعارات نُقشت على جدران المؤتمرات، وامتلأت بها خطابات الجهات الدولية، حتى ظننا أن في هذا العالم شيئًا من إنصاف، وأن الطفولة مصونة مهما اشتدّت الصراعات، وأن هناك ضميرًا إنسانيًّا لا يغمض له جفن حين يُسفك الدم، خاصة إذا كان دمًا صغيرًا لم يعرف من الحياة سوى ملامحها الأولى.


كبرنا ونحن نُمنّى النفس أن هناك من يحمي أولئك الذين لا حيلة لهم، من يتحدث باسمهم حين يُخرسهم الألم، من يرفع صوته عاليًا ليقول: "كفى". كبرنا ونحن نعتقد أن هناك في هذا العالم من لا يزال يؤمن بالحق لمجرد أنه حق، وبالحياة لمجرد أنها حياة.


لكن الحقيقة اصطدمت بعيوننا كالصاعقة.


حين سقط الأطفال تحت الأنقاض، حين اختلطت لُعبهم بالدماء، لم نسمع شيئًا. لم ترتفع تلك الأصوات التي طالما ادّعت أنها رسل الضمير الإنساني. لم يُرَ الحراك الذي يليق بحجم الجريمة، ولم تُفتح تلك الملفات التي وُعدنا بأنها ستُفتح يومًا ما لحماية الأبرياء.


صرخ الأطفال ولم يُجِب أحد. بكت الأمهات، ولم تتحرك يد. اهتزّت الأرض تحت وقع القصف، لكن الأرض التي تقف عليها العدالة العالمية لم تهتز.

فأين هي تلك المبادئ التي درسناها في الكتب؟ أين هي الحماية التي بُنيت لها القوانين؟

أم أن دماء الأطفال لا تُحسب إذا سالت في أرضٍ لا تحظى برضى الأقوياء؟


لقد كنا نؤمن، أو لِنَقُل: كنا نأمل. آمنا أن في هذا العالم ميزانًا يزن الأمور بإنصاف، وأن الألم حين يبلغ الطفولة يُحرّك ضمير البشرية، ولكننا تعلمنا أن القيم لا تبقى قيمًا إذا خضعت للسياسة، وأن الإنسانية تبهت إذا تلوّنت بالمصالح.


هذا العالم الذي يفاخر بتقدّمه، فشل أمام أبسط اختبار أخلاقي. فشل حين سقطت الطفولة ولم تُمدّ لها يد. فشل حين خذل الأبرياء بالصمت، بالصمت فقط، وكأنّ الكلمات أثقل من الدماء، وكأن الحقيقة لا تستحق أن تُقال.


لكن رغم هذا كله، لسنا ممن يستسلمون.


إن هذه الخيبة التي نحملها اليوم، ستصبح في الغد دافعًا. وإن هذا الصمت الذي أصاب من كنا نظنهم أهلًا للثقة، سيدفعنا لأن نكون نحن الصوت، نحن الدافع، نحن المدافعون عن الحقيقة التي يُراد لها أن تُدفن.


إن الطفولة التي ذُبحت في وضح النهار، لن تُنسى. والوجوه الصغيرة التي غابت قبل أوانها، ستبقى في الضمير الحيّ نارًا لا تنطفئ.


نحن الجيل الذي لن يُخدع بعد اليوم بالشعارات. نحن من تعلم أن نُحاكم الأفعال لا الأقوال. نحن من نعرف الآن أن الحقوق لا تُوهب، بل تُنتزع.

وسنكون من يُعيد تعريف الإنسانية، لا عبر المؤتمرات، بل عبر المواقف. لا عبر البيانات، بل عبر الأصوات الحقيقية التي لا تخشى قول الحق، مهما كان الثمن.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology