بقلم الدكتورة مي بكليزي
آفةُ القلبِ الطاهرِ الذي لا يقبلُ بالأنصافِ، ولا يقفُ وسطَ الطريقِ، بل يريدُ أن يُكمله حتى نهايتِه، ويريدُ أن يملأَ قلبَه به حتى الثمالةِ.
بلقيسُ الفارسيةُ، حلّت عليها لعنةُ الإخلاصِ في بحثها عن نصفِها الآخرِ الذي أرادتْه تاجًا على رأسِها ومملكةً لا يدخلُها غيرُه. استفاقت على همسِ الحبِّ مبكرًا، واختارت من لم يكن لهم سبيلٌ إليها، فاغتاظ القلبُ واتّسعت به الندوبُ. إذ تساءلت " لماذا يا الله قلبي يتعلق بمن يُمنعُ مني الاقترابُ منهم؟ هل هي لعنة؟ ص62
هربت إلى من ظنّته مُنصفَها من الألمِ، فازدادت أوجاعُها بعد أن نَصَرت قلبَها على عقلِها ذاتَ اختيارٍ، فدفعت الثمنَ غاليًا حتى عندما فَكَت وَثاقَ رباطِها المقدّسِ به، وحاولت السيرَ وراء عقلِها هذه المرة، نُكصت على عقبيها.
المشكلةُ، يا عزيزتي، تكمنُ في هذا القلبِ الأبيضِ الذي لا يحتملُ نقطةً، حتى ولو واحدةً، من سوادٍ.
"وليكن الحبُّ زادَكم الدائمَ، وكونوا حريصين ألا ينفدَ من خزائنِ قلوبِكم."
نعم، هذا ما بدأت به بلقيسُ معزوفتَها، وما اختتمتْها به:
الحبُّ سرُّ الوجودِ لمن يعي حقيقةَ وجودِه حقًا في هذه الحياةِ، زادٌ لمن يريدُ السيرَ في رحلةِ الحياةِ القصيرةِ هذه، إن أراد سيرًا حقيقيًا يشبه أسرارَ وودائعَ اللهِ فيها.
تأتي روايةُ "العابرة بقايا امرأة" للكاتبةِ بلقيسِ الفارسيةِ في سياقِ الأدبِ النِسَويِّ العربيِّ، مستندةً إلى تجربةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ تعبّر عن التحولاتِ النفسيةِ والاجتماعيةِ التي تمرُّ بها المرأةُ في مجتمعٍ يحدُّ من حرّيتِها وتطلعاتِها. يعتمد النقدُ الذرائعيُّ هنا على تفكيكِ النصِّ إلى مستوياتهِ الأساسيةِ لفهم دلالاتِه وتفسيرِ رمزيّتِه، في محاولةٍ للكشفِ عن البنيةِ العميقةِ للروايةِ وما تحملهُ من مضامين.
وقد جاء اختيار المنهج الذرائعي بوصفه مقاربة نقدية معاصرة تنطلق من تحليل النصوص ضمن مستويات متعددة (أخلاقي، نفسي، بصري، إنشائي، ديناميكي، إبداعي)، تسمح بفهم أعمق للخطاب السردي من حيث وظيفته وتأثيره ووسائله. فنكشفُ جوهرَ المعاني المستترةِ، وتأثيرَ النصِّ على المتلقي، مع استحضارِ الأبعادِ الدلاليةِ والرمزيةِ التي تكشفُ عن أسرارِ ما خفي من المعاني.
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن دينامية التشكيل السردي في الرواية، ومدى تحقيقها لشروط العمل الأدبي المؤثر القائم على الغاية والمنفعة، إلى جانب الجمال الفني والتكثيف الدلالي. وهي تنجح ذرائعيًا في تحقيق ثلاثية الأدب الذرائعي: المغزى، الفعالية، الأثر.
ما بين أيدينا نصٌّ يشكّل مزيجًا صوفيًا في قالبِ سيرةٍ ذاتيةٍ، نسجته بلقيسُ بأسلوبٍ عذبٍ ولغةٍ رقيقةٍ، خالصةِ الشعورِ وعميقةِ الإنسانيةِ.
أولًا: المستوى الأخلاقي (Pragmatic Level) يبحث في القيم والمواقف التي يبثها النص
يعرض النص تساؤلات وجودية ومواقف أخلاقية شديدة الحدة، من أبرزها:
حالة أنثوية مظلومة يعاقبها محيطها، الأسرة الصغيرة والمجتمع الكبير، على الحب والاختيار. بذلك يدين ضمنًا الأنساق الثقافية والاجتماعية التي تعاقب المرأة وتدينها على ذلك، من خلال عرض الصراع الداخلي للبطلة بين الالتزام المجتمعي والرغبة المشروعة في اختيار من يريد
قلبها، وهو موقف أخلاقي يتقاطع مع حرية الإرادة والاختيار.
كما يصور النص صورة الزوج اللامبالي وغير المكترث بمصير زوجته التي تضع ابنه، ما يكشف خللًا في السلوك الإنساني والأخلاقي داخل مؤسسة الزواج.
وبذلك يبرز هذا المستوى القيم والمبادئ التي يعبّر عنها الكاتب من خلال سرد تجربته الذاتية، حيث تتناول السيرة الذاتية غالبًا قضايا الهوية، والانتماء، والصراع الداخلي، والبحث عن الذات، مما يعكس نضج الكاتب ووعيه الأخلاقي..
ثانيًا: المستوى النفسي (Psychological Level) يستخرج الأبعاد النفسية للشخصيات وتفاعلها مع الأحداث.
إن الرؤى العاطفية و الصدمات و الآمال هي من تشكل دافع الكاتب لسيرته للكتابة فيعرض فيها نظرته لنفسه وللعالم ، بلقيس هنا عانت من الاضطراب العاطفي المتصاعد و المتتالي، تارة في الأسرة و مرات أخرى في الحب و الزواج و الأمومة نتيجة خيبات الامل التي تكبدتها في طريقها فيها لكنها لم تستسلم وتسلم رايتها بل كانت تتارجح بين الأمل و الانكسار
الولادة المتعسرة بدون دعم نفسي ومادي من الزوج، تظهر كرمز لصراع داخلي أكبر: الولادة كفعل بيولوجي ونفسي، لا يجد في المقابل سندًا من الطرف المفترض أن يكون حاميًا.
هذا المستوى يُظهر أن الرواية تعالج التحطم النفسي التدريجي، مما يضفي عليها طابعًا وجوديًا قاتمًا. تُوظّف الرواية تقنية الاستبطان، وكأن السرد يخترق الوعي الداخلي للشخصية، لتُعبر عن مشاعر الخوف، والخيانة، والقلق، والرفض، مما يمنحها بعدًا نفسيًا عميقًا يلامس المتلقي ويجعله شريكًا في التجربة.
ثالثًا: المستوى الاجتماعي والسوسيولوجي (Sociological Level)
النص يفضح بوضوح بنية اجتماعية تقوم على: سلطةَ الأهل الذكورية التي تتحكم بمصير الأنثى (اختيار الزوج).الخذلان العائلي في أهم لحظات المرأة (الزواج، الولادة).
نقد ضمني للمجتمع الذكوري الذي لا يرى في المرأة سوى تابع، حتى لو كانت جميلة وذكية وناجحة.يتبدى لنا من هذا أن الرواية ذات وظيفة اجتماعية احتجاجية ضد بنية مأزومة، حيث الأنوثة لا تُكافأ، بل تُعاقَب.
رابعًا: المستوى الأسلوبي واللغوي (Linguistic Level)
أهم ما يميز لغة الكتاب الانسيابية إذ لم تطوق لغتها بالبلاغة المترهلة على حساب المعنى و انسيابية الإحساس، فجاء النص معتمدا أسلوبًا شاعريًا سرديًا، يُوظف المجاز والتكثيف العاطفي بمهارة:
" كلامه هذا كان يطفئ نيران الوجع و الحقد " — استعارة حسية قوية.
"لكومة الجمال المتفتق عنها" — مجاز بصري جذّاب.
" ما زلت أتنفسك" ايجاز و ايحاء بليغ
المرسيدس الحبيبة، و الأهم كانت تحبنا كلينا أنا و جوزيف"
اللغة هنا تخدم المضمون، وتمنحه بعدًا شعريًا لا يُغرق في الزينة، بل يُثري التجربة الحسية والوجدانية للقارئ.
" شعرت أن الموت يطوف حولي" 76" وكأني بستانا امتلأ زهرا مختلفا ألوانه، ص22
كان طويلا ذلك الليل كرجل عطش في صحراء قاحلة ص94 بساطة الجمال و جمال البساطة في قالب متمكن عنوان لغتها .
خامسًا: المستوى الديناميكي (Dynamic Level) يركّز على حركة السرد وتطور الحبكة
يُظهر النص تطورًا في الشخصية:
من فتاة حالمة تبحث عن الحب " ما أجمل كلمة أحبك حين تسمعها الفتاة من رجل يروق لها" 32 ، إلى زوجة منكسرة، إلى أم تتخبط في واقع من العجز والخذلان." " بعد أن صعدت بسيارتي إلى منطقة جبلية بعد منطقة الموقر و كنت عازمة أن أنزل بها إلى أسفل الوادي و أضع نهاية لذلك الألم الذي أنهكني.." 86
هذا التطور الحاد في الشخصية يضيف حيوية سردية، ويجعل من البطلة أنموذجًا للتحول الداخلي العنيف تحت ضغط الخارج." و بالفعل وضعت عواطفي جانبا و هنا كنت الأب و الأخ و العم و القبيلة كلها رجل واحد يحاكم رجلا لم يحفظ الود . و قررت أن أكمل بأقل الخسائرص87
" عشت صراعا و ألما ووجعا" ص33
" وضعت شهادتي جانبا و قررت الإضراب عن الطعام" ص42كانت منذ البداية صاحبة قرار عندما أصرت على رغبتها في دراسة ما تميل إليه رافضة سلطة الأهل عليها، وقد نجحت في ذلك.
وتتكئ الديناميكية أيضًا على المفارقات الشعورية، والتوترات الناتجة عن الصراعات بين الرغبة والواقع، بين الأنوثة والقهر، بين الأمومة والفقد. فكل مرحلة سردية تقود إلى أخرى عبر رابط شعوري أكثر من كونه رابطًا سببيًا.
تقول الساردة: "أنجبت مولودها الأول وحيدة، حتى من زوجها، الذي غادرها إلى سريره ليغطّ في نوم عميق"، هذا المشهد المأساوي يُحدث قفزة في الحبكة تنقل المتلقي من حدث الولادة إلى أزمة وجودية تعيد تأطير العلاقة الزوجية كلها.
الرواية إذًا تتحرك وفق منطق التوتر والانكسار، لا منطق الإنجاز والتحقق، ما يجعل الديناميكية فيها محكومة بمشاعر الخيبة والانكسار، لا الحسم أو الذروة التقليدية، في تجلٍ سردي يعكس ضياع الذات الأنثوية في عالم لا يمنحها فرصة الاكتمال.
سادسًا: المستوى الجمالي والرمزي (Aesthetic Level) يتناول أسلوب الكتابة، وبنية الجمل، والنحو.
العتبة (العنوان أو المقدمة) وُظفت بذكاء لتلعب دورًا تأويليًا: "العابرة والبقايا".
"العابرة" تقترح مرورًا مؤقتًا، "البقايا" تشير إلى الشظايا المتروكة من التجربة. هذا التوتر الجمالي بين الحضور والغياب، بين التماسك والتشظي، يُنتج جمالًا مأساويًا عالي الدلالة.كانعكاس تلقائي للمفارقة الناتجة عن الحضور و الغياب التجمع و التشظي فتثير لذة فكرية ذهنية لدى المتلقي .:
العنوان يثير تساؤلات: هل البطلة مجرد عابرة في حياة الآخرين؟ أم أن الحياة تركت منها بقايا فقط
"المولود" = رمز للرجاء المؤجل، لكنه يُولد في غياب الحب، ما يجعله مؤشّرًا على ولادة ناقصة.
الرواية هنا لا تكتفي بالسرد، بل تؤسس شبكة رمزية تُغني النص وتفتح باب التأويل المتعدد.
تتميز لغة الرواية بثرائها الدلالي، وانسيابها التعبيري، إذ تتراوح بين السرد المباشر والتوصيف النفسي العميق، في تنويع أسلوبي يخدم التوتر الدرامي والشحن العاطفي للنص.
تُوظَّف الجمل في بناء مشهدي حيوي، حيث يغلب على التراكيب الطابع الوصفي الطويل، ما يمنح المتلقي وقتًا للتأمل في حالات الشخصية. تقول الساردة: "وبنظرة إنصاف، يمكن القول إن بحثها عن الحب كلفها الكثير، ونهش روحها لقمةً لقمة"، هذه الجملة تتسم بالبناء التراكمي والانسيابي، ما يعكس عمق التجربة وامتدادها الزمني.
تكثر في الرواية الأساليب الخبرية والتقرير الذاتي، ما يخلق تقاطعًا بين السرد الذاتي والرؤية الخارجية الناقدة. كما توظف الروائية أدوات الربط مثل "لكن" و"إلا أن" لتعميق المفارقة النفسية، كما في قولها: "إلا أن كل هذا لم يشفع لها لتحظى بمن يستحقها"، حيث تعمل هذه البنية على تكثيف الشعور بالخذلان رغم التميز.
من الناحية النحوية، تُحافظ الرواية على التراكيب الفصيحة السليمة، مع ميل واضح إلى اللغة الإيحائية ذات الطابع الشعري. كما تُستخدم ضمائر المتكلم والغائب بالتناوب، ما يمنح الرواية بُعدًا تعدديًا في الرؤية.
اللغة هنا ليست أداة للقص فحسب، بل تتحول إلى كيان تعبيري محمّل بالوجدان والرمز، يتّسق مع الموضوع الوجودي الذي تعالجه الرواية.
سابعًا: مستوى المتلقي (Reader Response Level)
الرواية تُشعل في ذهن المتلقي:تساؤلات حول قدرة المرأة على الصمود.الشعور بالذنب المجتمعي تجاه النساء المهمشات.تفاعل وجداني كبير مع مصير البطلة، يجعل القارئ يتماهى معها، أو ينقدها.هذا البُعد التفاعلي هو ما يمنح الرواية فاعلية ذرائعية حقيقية، لأنها لا تترك المتلقي ساكنًا، بل تُشركه في المعاناة والتأويل
تحليل الشخصيات من منظور ذرائعي
1. البطلة / المرأة العابرة
شخصية مركبة، تتقاطع فيها عناصر القوة والضعف، الأمل والانكسار.تمثل الصوت الداخلي للمرأة المعاصرة التي تحاول انتزاع حريتها ضمن منظومة قهرية.تمر عبر تطور ديناميكي، من فتاة تحلم بالحب، إلى زوجة محطمة، إلى أم مثقلة بالخذلان.رغم الهزائم، فإنها لا تُقدَّم كضحية فقط، بل ككيان واعٍ، تُسائل الوجود والمجتمع والذات.
2. الزوج (جوزيف) يمثل أنموذج الذكورة الباردة، البعيدة عن العاطفة والمسؤولية.غيابه أثناء الولادة، هو غياب رمزي عن المشاركة الوجدانية.يبدو كقيمة سلبية مضادة، لا يُمنح عمقًا نفسيًا، بل يُستخدم كأداة كشف.
3. الأم والأخ
يمثّلان رمزين للمجتمع الأبوي التقليدي: التوجيه، القيد، الهيمنة.غياب الأم في اللحظات الحاسمة، و"صفقة" الأخ في تزويج البطلة، يُظهِران انهيار الدعامة الأسرية المفترضة.
ثانيًا: الزمن الروائي (الكرونولوجيا)
السرد لا يسير خطيًا كرونولوجيا ، بل يعتمد الزمن النفسي " الداخلي" أكثر من الزمن الواقعي.
فترات طويلة تُختصر بجملة (خمس سنوات من انتظار الإنجاب)، بينما لحظة الولادة تتسع سرديًا لتُصبح لحظة محورية.
هذا التلاعب بالزمن يخدم البناء الذرائعي لأن:
التركيز يكون على الأثر النفسي، لا على الحدث. يبرز عمق التجربةلا كمجرد وقائع، بل كمأساة وجودية.
ثالثًا: الفضاء الروائي (المكان)
المكان ليس مجرد ديكور، بل له حمولة رمزية:
غرفة الولادة: تتحول من مساحة ولادة إلى ساحة ألم وانكشاف.
منزل الزوجية: يبدو باردًا، فارغًا من الحب، رغم امتلائه بالشرعية.
البيت الأبوي: فضاء قيد وكبت، حتى حين تغادره البطلة، يبقى مسيطرًا.
الفضاء هنا يعكس حالات النفس، ويخدم الوظيفة الذرائعية بتجسيد الداخل من خلال الخارج.
رابعا: الحوار والتعبير
النص الذي اقتُبس لا يضم حوارات مباشرة، لكنه محمّل بـالتيار الداخلي للبطلة (المونولوج).
هذا الأسلوب يُضفي كثافة وجدانية عالية ويجعل القارئ شاهدًا على انكسارات البطلة.
" همست روحي : أهلا بك في حياة جديدة مختلفة، مختلفة تماما" 43
الجانب الصوفي في رواية "العابرة: بقايا امرأة"
يمثل بعدًا تأمليًا عميقًا في بنية النص، حيث يتقاطع مع المسارات النفسية والوجودية للبطلة، ويُضفي على العمل أبعادًا رمزية ودلالية تتجاوز الواقع المحسوس إلى ما هو روحي وعرفاني. ويمكن الحديث عن هذا الجانب من خلال المحاور الآتية:
1. التحول الداخلي وطلب الحقيقة
الرواية تعرض شخصية مأزومة، تتنقل في فضاءات الحيرة والاغتراب والبحث عن ذاتها الممزقة، وهو ما يتقاطع مع المفهوم الصوفي لـ"السلوك"، أي الرحلة من ظاهر الذات إلى باطنها، ومن العالم الخارجي إلى الداخل الروحي. البطلة ليست فقط "عابرة" في المكان، بل هي "سالكة" في التجربة، تمر بمقامات الألم والغياب، لتصل إلى بقايا ما تظنه خلاصًا أو كشفًا.مثل قولها: " لا بد أن تعالجي ترومات الطفل الداخلي" ص18
" هيا أيتها الطفلة اخرجي تحدثي" ص19
" كيف سمح له أن يؤذيني و أنا طفلة صغيرة جدا جدا "ص
19" اكتشفت أني حامل و هنا بدأت الحرب الداخلية"ص64
2. اللغة الصوفية والإشارات الرمزية
الرواية توظف لغة ذات طابع عرفاني، حيث تُكثّف العبارات، وتُشحَن بالمجاز والإيحاء. هناك ميل إلى التجريد، وإلى اختزال التجربة الوجودية في رموز مثل الظل، المرآة، الغياب، الارتقاء، العبور، وكلها مفردات تحيل إلى قاموس المتصوفة. هذا التكثيف يجعل اللغة أقرب إلى الدعاء أو المناجاة، لا السرد التقليدي." يا زوهريتي" ص20"من يعرف قيمة نفسه لا ينكسر أبدا لأنه لا يتصرف إلا من خلال الله فقط" 95
3. الزمن الصوفي: زمن النفس لا زمن الساعة
الرواية تنحاز إلى "الزمن النفسي"، الذي يُماثل عند المتصوفة زمن "الحال" أو "الوجد"، حيث يفقد الزمن الواقعي معناه، ويحل محله الإحساس اللحظي بالانكسار أو الكشف أو الارتقاء. فالأحداث ليست مرتبة زمنيًا بل وجدانيًا، وهو أسلوب سردي قريب من التجربة الصوفية في تداخل الزمن بالمشاعر." ما هذا القدر يا ربي و ما الحكمة التي تخبئها لنا نحن الاثنين!!" ص53
4. المرأة كذات صوفية مجروحة
بطلة الرواية ليست فقط امرأة مأزومة نفسيًا واجتماعيًا، بل تمثل نموذجًا لصوفية حديثة؛ تبحث عن المعنى في العالم القاسي، وتتعامل مع الحب والخذلان كـ"محن" و"ابتلاءات"، فتتطهر بالألم، وتكتشف أنها لم تكن تريد الرجل، بل تريد الله فيه، أو تبحث عن ذاتها من خلاله. هذا التوجه يذكرنا بصوفيات التاريخ مثل رابعة العدوية، التي ارتقت بالمحبة إلى مقام التجريد والتوحد بالله." احذري الرجال فجميعهم ولدوا في الظلام و لا يعلمون للنور سبيلا" ص21
" ها هو القدر يصر أن يحدثني أو ربما روح وليد تخبرني بأنها حاضرة معي" ص29
5. الوجد والتجلي كآليتين تعبيريتين
في لحظات التوتر أو الخيبة أو التأمل، تنكسر اللغة في الرواية إلى وحدات شعرية توحي بالتجلي والانخطاف، وكأن البطلة تصل إلى حالة من "الوجد" – الشعور الحارق الذي يُنتج نوعًا من النشوة الحزينة، وهو ملمح صوفي بامتياز." فاستجاب لي الرب وكان لي من يعقوب اسمه فحسب" ص61
خلاصة:
الجانب الصوفي في "العابرة: بقايا امرأة" لا يُصرّح به بشكل مباشر، لكنه يتسلل عبر البنية النصية، واللغة، والزمن، والشخصية. إنه صوفية سردية معاصرة، تنبع من تجربة الألم والتحول، وتقدم الأدب كوسيلة لا للترفيه، بل للتطهر والكشف والنجاة.
يتبين لنا
الرواية – بحسب ما قُدّم منها – تنتمي إلى الروايات الذرائعية التي توظف عناصر السرد من أجل غاية فكرية واجتماعية ونفسية، وليس للمتعة فقط. وهي تُحقق هذا عبر:
شخصيةمركزية مشحونة بالصراع الداخلي.هيكل سردي ينحاز للزمن النفسي.
فضاء رمزي مكثف.لغة وظيفية شاعريًا.وحوار داخلي ينقل الوجدان لا الحدث فقط.
العمل الأدبي المؤثر القائم على الغاية والمنفعة، إلى جانب الجمال الفني والتكثيف الدلالي.
العابرة: بقايا امرأة" هو عمل أدبي يحمل عمقًا فكريًا وجرأة في الطرح، لكنه قد لا يكون مناسبًا لمن يفضلون السرد التقليدي أو الحبكات الواضحة. ومع ذلك، فهو يستحق القراءة للنظر في القضايا التي يطرحها، خصوصًا لمن يهتمون بالأدب الذي يتناول تحولات الذات وقضايا المرأة من منظور نفسي واجتماعي.