"مجلة سُرى " في حضرة الإبداع: عددٌ استثنائي يحتفي بالجمال والكلمة والصورة



الدكتورة تهاني بشارات 

 نورٍ تتهادى على ضفاف الإبداع، حاملةً معها عبق الحرف، وبهاء اللون، ونبض الفكرة، وهمس الحكاية. هو ليس مجرّد عدد من أعداد النشر، بل هو باقة يانعة من الزهر المتنوّع، تُشبه حديقة أدبية وفنية مفتوحة على كلّ الجهات. فمنذ أن تطالع أولى صفحاته، تشعر أنّك أمام مشهد بانورامي تختلط فيه الألوان، وتتراقص الحروف، وتتماوج الأفكار، ليغدو كلّ مقالٍ فيه بمثابة نبضٍ حيّ يُدوّي في صدر القارئ، ويهمس له: "هنا يكمن الإبداع.. هنا تحيا الكلمة."


في البداية، يُطلّ علينا قلم الأستاذة رنا الطويل بمقالها المدهش "كم نسخة منك؟"، وكأنها تنقّب فينا عن شظايا الذوات التي نُخفيها خلف وجوهنا اليومية. مقالتها ليست مجرّد طرحٍ فكري، بل أقرب إلى مرآةٍ داخلية نُحمل أمامها لنتأمّل كم منّا نحمل فينا! كم نحن متعدّدون! وكم نخاف أحيانًا من أنفسنا؟ لقد كتبت رنا وكأنها تغزل من الضوء كلمات، تستنطق بها ظلال الأرواح، وتفتح شرفات الأسئلة على نوافذ الذات المجهولة.


ثم ننتقل إلى وهجٍ آخر، في مقالٍ فريد للكاتبة الصحفية سهام فوده، التي كتبت عن "الزعيم" الذي لا يتكرّر، الفنان عادل إمام. لقد كتبت عنه كما يُكتب عن الأيقونات، فرسمت لنا صورة رجلٍ صقل الضحكة من الألم، وحوّل الخوف إلى بطولة. كتبت عنه كما يُكتب عن التاريخ، لأنه كان بحقّ رجل الفنّ الذي واجه الظلم والممنوع والمحظور بابتسامةٍ ساخرة ورسالةٍ باهظة الثمن. من يقرأ هذا المقال، يُدرك أنّ الضحك ليس دائماً بسمة، بل قد يكون طلقة ضدّ القبح، وصيحة في وجه السكون.


أما الفصول البصرية في هذا العدد، فكانت لوحات الفنانة التشكيلية إسراء السعودي أشبه بغيماتٍ ملوّنةٍ تهطل جمالاً على الصفحات. ألوانها تنبض بالحياة، وملامحها تنقلنا من واقعٍ إلى خيال، ومن رمزيةٍ إلى تأمل. وكذلك جاءت أعمال الفنانتين مها الطاهات وهناء عبد الرحمن عيسى، وكأنها ترانيم صامتة تنطق بلغةٍ خاصة، لا يتقنها إلا من يحسن الإصغاء إلى نبض اللوحة. أعمالهنّ ليست مجرد فنّ، بل هويّة مرئية، ورسائل عميقة تُحاكي الجمال والمعنى معاً.


وفي زوايا الشعر، تتلألأ أنوار الشاعرة الرقيقة مريم مصطفى، التي كتبت "ابتسامة مع وقف التنفيذ" بلغةٍ تنبض بالحزن النبيل والفرح المؤجل. قصيدتها أشبه بوردةٍ أُزهرت في منتصف العاصفة، فكان حرفها مزيجاً بين الانكسار والصلابة، بين الشوق والانتظار. ومن جهةٍ أخرى، يُبحر بنا الشاعر إبراهيم ياسين في "ترحال"، فيأخذنا إلى جغرافيا القلب، وخرائط الذكريات، فينقلك من ميناء الحنين إلى ضفاف الغياب، بأسلوبٍ شعريّ مفعم بالصور والانزياحات.


ثم تأتي الشاعرة الدكتورة ميساء الدرزي بقصيدتها "لأيّ أنت أشدو؟"، التي تُشبه تراتيل غارقة في التأمّل، تنادي الحبيب، الوطن، وربّما الذات المنفية. كلماتها كأنها قافلة تائهة تبحث عن نجمٍ يُرشدها، وكأنها تسأل الحرف عن جدواه حين يصبح الصمت سيداً.


ولا تكتمل هذه الحديقة الأدبية إلا بتنوّع القصص القصيرة التي وردت، والتي جاءت كنبضات متفرّقة، كلّ منها يحمل قلباً مختلفاً. القصص حملتنا إلى عوالم كثيرة، بعضها شفيف، وبعضها صادم، لكنّها جميعاً تمسّ الإنسان في داخلك، وتحفّز التأمّل والسؤال.


وفي محطّة الحوار، تتحفنا الإعلامية بيان مقبل  بحوارٍ شيّق مع المنتج الشهير السبكي، في حديثٍ لا يخلو من الجرأة والعمق. مقبل  تجيد أن تحاور كما يجيد الرسّام أن يختار الظلّ المناسب للضوء. جعلتنا نشاهد السبكي من زوايا لم نكن نراها، فتعرّفنا على عقلية الإنتاج، وقلب الفنّ، ومعارك الشاشة.


إنّ هذا العدد ليس مجرّد نشرةٍ أدبية، بل هو احتفالٌ صريح بالحرف واللون والصورة والفكرة، بكلّ ما فيها من انزياحاتٍ وعذوبة وصدمات. هو فسيفساء من المواهب، ومنجزٌ يليق بأن يُرفع له القبّعة. كلّ اسمٍ فيه، وكلّ حرف، وكلّ سطرٍ، هو نجمة أُضيفت إلى سماء الثقافة العربية، التي ما زالت، رغم العتمة، تُنبت نوراً وأملاً.


نعم، في هذا العدد نقرأ، نُبحر، نحلم، ونبتسم… كأن المجلة تقول لنا: "إن كنتم تبحثون عن الجمال، فأنتم في المكان الصحيح."

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology