بقلم مايا علي السليمان
لم يَكُنِ الموتُ غريبًا عن هذه الأرض، لكنَّهُ هذه المرة جاءَ مُتخفِّيًا في ثيابِ البشر، يَمشي في الطُّرقاتِ كأنَّهُ واحدٌ منَّا، غيرَ أنَّهُ يَحملُ في يديهِ سكاكينَ الغدرِ، وفي عينيهِ نارَ الكراهية.
لم تَكنْ حربًا، بل كانت مذبحةً تُقامُ في وضحِ النهار، أُطفِئتْ فيها الشموعُ لتُوقدَ النيران، وامتلأتِ الأزقّةُ بدماءِ الأبرياءِ، لا لذنبٍ اقترفوهُ، بل لأنَّهُم تنفَّسوا الحياةَ في المكانِ الخطأ، وتحتَ الرايةِ الخطأ، وفي الزمنِ الخطأ.
وحدَهم العُزَّلُ كانوا الهدفَ، ووحدَها الأمهاتُ كانتْ تَسمعُ صوتَ الرَّصاصِ وتَخشى أنْ يكونَ قد نادى على ولدِها.
البُيوتُ سُلِبَت أبوابُها، والنوافذُ هُشِّمَت، والطفولةُ تُرِكَت تَصرُخُ في زوايا الخَراب، لا أحدَ يُنصِت، ولا أحدَ يُنقذ.
الليلُ هناكَ لم يَكُنْ لراحةِ الجسد، بل لقلقِ الرُّوح، وللترقُّبِ، وللعدِّ التنازليِّ قبل أنْ يَطرُقَ الموتُ بابًا جديدًا.
رأينا أبًا خرجَ من بين الأنقاضِ يَحملُ بينَ يديه بقايا جَسَدٍ كان يومًا قلبَهُ النابض، لم يَكنْ يبكي، بل كانَ صوتهُ يُشبهُ الموتَ ذاته... مَشى إلى الهاويةِ دونَ أنْ يلتفِت.
وفي ذاتِ الوقتِ الذي سالتْ فيهِ الدماءُ على الطُّرقات، كانت نيرانٌ أخرى تَلتهمُ ما تبقّى من خُضرةِ الجبال... احترقَ الساحلُ، لكنَّهُ لم يكنْ وحدَهُ مَن احترق، بل احترقتْ معهُ كلُّ ذاكرةٍ جميلة، وكلُّ شجرةٍ كانت تُظلِّل بيتًا فيهِ حياة.
نحنُ أبناءُ هذه الأرضِ، مهما اختَلَفَت طوائفُنا أو مذاهبُنا، فمذهبُنا الحقُّ هو الإنسانيَّة، ودينُنا في المِحنِ هو الرحمةُ والتآخي.
نحنُ إخوةٌ في الوجعِ والمصير، لا يَجمعُنا اسمٌ ولا لونٌ ولا انتماء، بل يَجمعُنا هذا الألمُ الذي علَّمَنا أنَّ الطعناتِ لا تَسألُ عن الهويةِ قبل أنْ تَسقُط.
في لَيلةٍ بلا قمر، أصبحَ سَفكُ الدماءِ على الميزان، والموتُ كجارٍ يَطرُقُ الأبواب.
وصُفوفُ الخُضارِ تَسَوَّد، والقلوبُ تَحقد، وساحلُنا أَثقلهُ الهمُّ، عزاؤهُ ما زالَ مُمتدًّا.
والظالمونَ يَتجوَّلونَ بنعيمٍ سَرقوهُ على حسابِ أمهاتٍ ثكلى، وأبناءُ أرضِنا يَحتضِنونَ طيّاتِ اللَّحد، وفي هذهِ المرَّةِ لم يَتمزَّقِ الكَفَن...
سُوريا المنهُوشةُ، يُرهقُها الحقدُ الدَّفين...
أأُخبِركمْ عن شناعةِ ما اقترفوهُ الظالمونَ بحقِّ عُزَّلٍ لا مَهربَ لهمْ ولا مَلجأ؟
عن أبٍ غُطِّيَتْ عيناهُ بذِكرى مفادُها أغلى ما يَملك؟
عن عَجوزٍ وأمٍّ احتَمَلَتْ كلامًا نَزفَ من قلبِها وأوجعَها؟
ذُلٌّ جائح، وشبابٌ ضائع، وبلادٌ مَدفونةٌ بثِقلِ همومِها...
سلامٌ على أبناءِ بلدي، أبناءِ ساحلي، أبناءِ الجبال...
سلامٌ عليكم حتى يُقامَ الحقُّ ويَظهَر.