بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة
في زمن اللا معنى وفي وقت أصبحت فيه الشهرة تُقاس بعدد المتابعين لا بجودة المحتوى ولا بعمق الفكر انفلتت من بين أيدينا منصة صغيرة الحجم ضخمة التأثير تدعى تيك توك جاءت كأنها مساحة مرحة للترفيه ومشاركة اللحظات العابرة لكنها سرعان ما كشفت عن وجه آخر أكثر ظلمة وبشاعة وجه يلمع من الخارج لكنه يخفي تحته أنيابًا تنهش في جسد المجتمع وقيمه وعقوله
تيك توك لم يعد مجرد تطبيق بل صار مشهدًا متكاملًا من الفوضى الإلكترونية وصناعة اللامعقول وأداة مغرية لهدم البيت من الداخل حيث أصبحت التفاهة سلعة مربحة وصار الطريق إلى الترند معبّدًا بالصراخ والرقص المصطنع والانحراف السلوكي المموّه في مشهد ساخر نشاهد شبابًا بلا موهبة يصرخون ويشتمون ويتصنعون البكاء أمام الكاميرا ثم يحصدون ملايين المشاهدات والهدايا الرقمية وأحيانًا التمويلات المبهمة في صعود مريب لا يخضع لأي منطق من يُموّل هؤلاء ومن يفتح لهم أبواب الشهرة بهذه السرعة ولماذا
في كواليس التيك توك لا شيء بريء هناك خوارزميات ذكية تخضع لتوجيه لا للصدفة تروّج للمحتوى المثير وتُغيب الوعي وتحجب كل ما هو نافع أو راقٍ وتقوم شركة المالكة للتطبيق بإدارة المنصة بسياسات خفية بينما يظهر في المشهد المحلي شركاء ووكلاء غير معلنين يدعمون حسابات معينة ويتجاهلون البلاغات ضد محتوى هابط ويصنعون ترندات مفتعلة لأغراض أبعد من مجرد الترفيه
لكن الأخطر أن بعض هذه الحسابات باتت واجهة ناعمة لغسيل أموال واسع النطاق من خلال هدايا وهمية تُرسل عبر البثوث ومبالغ مفاجئة تظهر في يد صانع محتوى فجائي أو فتاة مغمورة تنقلب بين ليلة وضحاها إلى مالكة سيارة فاخرة وشقة راقية وملابس ماركات دون مصدر معلوم دون شهادة أو مهنة أو أي خبرة أو قيمة ما الذي حدث ومن دفع ومن صنع لها هذا المجد المصطنع
وليس من المبالغة حين نقول إن هناك مشاهد تُشبه المعجزات لكنها ليست من نور بل من ظلال مشبوهة فتاة فقيرة من بيئة شديدة البؤس بالكاد تجد قوت يومها لا تحمل أي مؤهل ولا تملك أي مهارة حقيقية تظهر بفيديوهات لا تُراعي حياء ولا قيمة ثم تنقلب بعد أسابيع قليلة إلى واحدة من رموز المال السريع تتجول في المولات تركب السيارات تلبس ما لم تحلم به يومًا وتحصد إعجابات وتعليقات بالملايين وكأن المجتمع يصفّق لتتويج العبث
وفي جانب لا يقل خطورة تتصدر المشهد بعض السيدات والفتيات ممن أسأن إلى بنات جنسهن بفيديوهات مبتذلة تتحدث بألفاظ سوقية وشتائم وانفعالات مسمومة يصدرن صورة قذرة عن المرأة المصرية والعربية أمام الداخل والخارج فتاة تشتم أمها وأخرى ترقص بلباس فاضح وثالثة تتصنع معارك وهمية من أجل اللايكات وكل هذا يُقدَّم للعالم باعتباره الوجه الحقيقي للمرأة في بلادنا بينما تتوارى النماذج الراقية ويتم تهميش كل امرأة ناجحة وعاقلة وحقيقية
هؤلاء لا يسيئن فقط لأنفسهن بل يرسمن عن عمد صورة مبتذلة عن المجتمع تخدم سرديات مشبوهة وتحقق أهدافًا تجارية وثقافية لا تُعلن وكل ذلك يتم برعاية خفية وبتمويل لا تفسير له ليصبح التطبيق ساحة منظمة لإعادة تشكيل الذوق العام وتدمير صورة المرأة والأسرة والمجتمع
ومن وراء هذه الستارة المعتمة تقف جهات تراقب وتوجه وتدير وتدفع خوارزميات توصل السطحية للصدارة وتغتال المحتوى البنّاء في صمت وتدفع البعض إلى هاوية لا يُدركون أنهم يُساقون إليها كوقود لمنظومة لا تعرف الرحمة ولا تحترم العقول
ولم يعد السكوت حلًا لا بد من وقفة صارمة تبدأ بتشكيل وحدة وطنية لمراقبة المحتوى الرقمي وربطها بالأمن القومي لمتابعة مصادر التمويل المشبوه لحسابات التيك توك وتشريع قوانين حاسمة تُجرم بث المحتوى الذي يهدد السلم المجتمعي أو يحرض على الانحلال الأخلاقي أو يشوه صورة المرأة أو الأسرة كما يجب إلزام المنصة بمكاتب إدارية داخل الدولة تتيح رقابة حقيقية على المحتوى وتربط التطبيق بالقوانين المحلية
لكن المواجهة لا تكون بالقانون وحده بل بالمحتوى البديل والثقافة والإعلام والحملات التوعوية التي تعيد تشكيل العقل الجمعي وتقنع الشباب أن القيمة ليست في الترند ولا أن الكرامة تُستبدل بهدية رقمية ولا أن الشهرة تستحق بيع النفس والهوية من أجل حفنة من المشاهدات
تيك توك ليس مجرد تطبيق بل مشروع يُعاد من خلاله بناء عقل جديد مفرغ من المعنى مهووس بالصوت العالي والمظهر لا الجوهر وإذا لم نتوقف لنفكر ونسأل من يدفع من يموّل من يصنع هذه النماذج ومن يختارهم ليظهروا كل يوم على شاشات الهواتف سنجد أنفسنا في مواجهة جيل لا يعرف من هو ولا ماذا يريد ولا لماذا يتابع ولا من يصنع له واقعه الرقمي الجديد