بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
من أعظم المنح التي يهبها الله للإنسان أن يجعله صاحب أثر ورسالة، يزرع في القلوب بذور الخير، ويترك في الأرواح بصمات لا تمحوها الأيام. وما ذلك إلا فضل من الله، ورحمة منه، أن يرزقنا بقدرة على أن نكون جسراً للنور في حياة الآخرين. في مسيرة عملي الأكاديمية كدكتورة غير متفرغة في جامعة النجاح الوطنية – الجامعة التي أفتخر وأعتز بالانتماء إليها لم تكن وظيفتي مجرد تدريس للمناهج، ولا شرحاً لصفحات الكتب، بل كانت رسالة أكبر وأعمق؛ رسالة إنسانية تتجاوز حدود المادة لتصل إلى الأرواح.
على مقاعد الدراسة يمر مئات الطلبة، لكن قلّة فقط هم الذين يتركون أثراً عميقاً في القلب، لا بسبب تفوقهم الدراسي وحده، بل لما يجمعونه من أدبٍ وصدقٍ وإنسانية. ومن بين هؤلاء الطالبة آية الحاج أحمد ، التي حملت من اسمها نصيبًا وافرًا، فكانت آيةً في الخلق، وآيةً في الوفاء، وآيةً في النقاء.
أتذكر حين تشرفتُ بتدريسها مادة اللغة الإنجليزية، لم تكن ميّالة لهذه اللغة في البداية، شأنها شأن كثير من الطلبة، بل كانت تراها مادة ثقيلة على القلب. لكن، ومع مرور الوقت، تحولت إلى واحدة من أكثر الطالبات نشاطًا وتفاعلاً. وما زالت كلمتها ترن في أذني حين قالت لي: "أحببت اللغة الإنجليزية لأجلكِ، وبسبب أسلوبك البسيط وتعاملك." عندها أدركت يقيناً أن كل ما يُعطى بحب سيعود حباً، وكل ما يُزرع باحترام سينبت احتراماً مضاعفاً.
ومرت الأيام، ونجحت آية في المادة، لكن نجاحها لم يكن مجرد اجتيازٍ أكاديمي، بل كان بداية لرحلة إنسانية عنوانها الوفاء. فبعد انتهاء الفصل، لم ينقطع تواصلها، ولم تنسَ معلمتها، بل ظلت تكتب وتدعم وتساند، تبعث الكلمات الصادقة كنسائم تهب على الروح فتنعشها. وكان أجمل ما فاجأتني به، تلك الرسالة العميقة التي كتبتها بعد إشهار كتابي المشترك "نقرأ بإبداع.. نكتب بحب"، رسالة لم تكن مجرد تهنئة، بل كانت مرآة لمشاعر نقية، ولوحة فنية مرسومة بصدق الروح.
قالت آية الحاج أحمد :
"إلى من تكتب فتُحيي، وتقرأ فتُبدع، وتُعلّمنا أن الحرف يمكن أن يكون حضناً دافئاً… دكتورة الفاضلة تهاني بشارات ، يا زهرة الفكر، ويا نغمة الحُب في زمنٍ جاف، كتبك ليست مجرد مؤلفات تُقرأ، بل هي أرواحٌ تُعانقنا، وتُربّت على قلوبنا، وتهمس لنا: (ما زال في الحياة ما يستحق أن نُحب، أن نكتب، أن نؤمن)."
ثم مضت توصف مؤلفاتي بعبارات أضفت على حروفي حياة جديدة:
عن كتاب "نقرأ بإبداع.. نكتب بحب" قالت إنه مرآة القلب، تنبض كل صفحة فيه بالحب والعاطفة، وتدعونا أن نقرأ لا بعين ناقدة فحسب، بل بقلبٍ عاشق.
وعن "إنما الإنسان أثر" بجزأيه الأول والثاني، رأت أنه يجسد فلسفتي في الحياة، وأن الإنسان ليس مجرد عابر، بل أثرٌ وبصمةٌ وقصة لا تُنسى.
وعن "قبسات هادئة في عتمة الطريق" وصفت كلماته بأنها نور في العتمة، ويد حانية تُربّت على وجع الطريق، تحمل بين سطورها وعداً أن أحداً ليس وحيداً في رحلته.
أما عن "لحن الأمل" فقد رأته نشيد الصباح وسيمفونية الفرح، يتردد في القلوب كلما ضاقت الدنيا، ليعيد إلينا إيماننا بأن الأمل ليس كلمة بل حياة تنبض.
وختمت كلماتها بجملة أثارت في قلبي مشاعر لا توصف:
"دكتورتي تهاني، أنتِ لا تكتبين بالحبر، بل بالحب. لا تؤلفين كتباً، بل تُؤلفين أرواحاً. وجودك في عالم الأدب نعمة، وكلماتك هدية لكل من عرفك وقرأك وأحبك، حتى دون أن يراك، فقط لأنك لامست قلبه."
حين قرأت رسالتها، تذكرت أن وظيفة المعلم لا تنتهي عند باب الصف، وأن أثر الكلمة لا يزول بانتهاء الفصل، بل يبقى ما بقي الحب في القلوب. آية لم تكن مجرد طالبة درست عندي، بل كانت شاهداً حيًا على أن التعليم الحقيقي ليس مجرد تلقين، بل بناء للإنسان، وتشييد لروح قادرة على الحب والعطاء.
إن ما قالته آية لم يكن شهادة لطبيبٍ يكتب دواءً، ولا لطبيب نفسٍ يرمم جراحاً، بل كان شهادة لرسالة أستاذٍ يؤمن أن العلم لا يُزرع إلا في أرض مهيأة بالحب والصدق. وهنا يكمن الفرق بين أن نكون مجرد معلّمين، أو أن نكون رسل نور يضيئون قلوب من حولهم.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أستعيد صور الوجوه المضيئة التي مرّت في حياتي الأكاديمية، وأدرك أن قيمة المعلم الحقيقية ليست في عدد ما يدرّس من المواد، بل في عدد القلوب التي لامسها، والأرواح التي غيّر مسارها.
شكراً لكِ آية من القلب… لقد كنتِ لي امتداداً للرسالة، وذكرى جميلة تُثبت أن الإنسان حقاً أثر، وأن الحب الذي نزرعه في قلوب الآخرين يعود إلينا نوراً أبد الدهر.