ا لأديبة: ميس أحمد خضر
ربما ھي قصة، لكنھا لیست مثلَ أيِّ قصة...
ھي رحلةٌ من القمة إلى القاع ومن ثم إلى ضیاع، یتخللھا الكثیر من الحزن والأسى ولكن بنكھة شوقٍ واشتياق، تدور أحداثھا حول فتىً كان یعیشُ عیشةَ رضیةَ ھنیة، بین أسرةٍ مترابطةٍ قویة مكوّنةٍ من أبٍ وأمٍّ وأخت، لدیه اسمٌ وھویة ویلقبونه بالمخترع الصغير لحبه الشدید بابتكار ما ھو جدید، ھو فتىً مليءٌ بالشغف المتأجج والأحلام الواعدة، لذا فھو استثنائي.
ومن ھنا تبدأ قصة الفتى محمد ذو الحادیة عشرةَ من عمره ، الفتى الطموحُ والمغامر و صاحب الثغرة الباسمة.
في أحد أیام شھرِ أكتوبر اللطیف، و كان فصل الشتاء قد أوشك على المجيء، جلس محمد في غرفته یتأمل خططه القادمة و مشاریعه الباھرة وكان منغمساً یسرحُ في خیاله، لیقطع حبلُ أفكاره صوتُ أمه وھي تنادیه من المطبخ: یا محمد، تعال إلى ھنا.
ھرع محمد لیلبّي نداء أمه، وقال: ماذا ھنالك یا أمي؟
أجابته أمه وھي على استعجال: اذھب وأحضِر لي بعضاً من الاحتیاجات التي قد كتبتُھا على ھذه الورقة، قد تأخّر الوقت وعليّ أن أحُضّر الغداء ولا تنسَ الطحین كعادتك فھو المكوّن الأساسي في وصفتي لھذا الیوم.
ابتسم محمد وقال: حاضر یا أمي ، وسأحُضر الطحین أولاً في قائمتي، كي لا أنساه.
ذھب محمد لشراء ما أوصته به أمه وأثناء سیره إلى متجر البِقالة كان كعادته یفكّر بالأمور التي سیحققھا في القریب العاجل، توقف فجأةَ في منتصف الطریق فقد سمع صوتاً یخترق حاجز الصوت من فوقه، نظر لأعلى لیُصدَمَ بصاروخٍ كبیر ذاھبٌ في الاتجاه المعاكس من طریقه أي باتجاه بیته، وما إن رمش جفنُ عینه، كان الصاروخ قد نزل على الأرض في مكانِ ما وخلال لحظات حدث انفجارٌ عظیم
من ھول ھذا الانفجار سقط محمد على الأرض وعلى وجھه علامات الذھول والارتباك، لم یستطع أنیصدّق ما حصل أمام عینیه للتو، فقد كانت الأحداث سریعةً للغایة وكأنھا لقطة من فیلمٍ خیالي وما أن عادت قدرته على الاستیعاب من جدید، بدأت الأفكار تتسارع في ذھنه وترسم له تخیلاتٍ مختلفة ومرعبة حول ما من الممكن حصوله، ماذا لو كان ھذا الصاروخ قد استھدف بیتنا؟ ھل حقاً نزل حیثُ نقطُن؟ ھل عائلتي بخیر؟
ھنا وفي ھذه اللحظة التي تحبسُ الأنفاس، نھض محمد و ركض مسرعاً نحو بیته لیطمئنّ على أھله، وما إن وصل، صُعِق بوجود الصاروخ في وسط بیت عائلته، تحدیداً في مركز البیت، شھقَ شھقةً ثم صرخَ قائلاً: أمي، أبي ، أختي !!! ما الذي حصل؟ أین أنتم؟؟ أتسمعونني؟ وبدأ بالبحث بین الركام الھائل والسواد القاتم الذي أكل كل جزءٍ في البیت، وفجأة وبینما ھو ینادي ویحفر بأظفاره الحُطام المُتفحّم إذ به یسمع صوتاً قریباَ ولكنه غیرُ واضح كونه بعید، عندما اقترب من المكان سمع أمه وھي تطلب منه أن یطلب من أحدٍ أن
یساعده في رفع الآجر الذي یحتجزھم في عمق الركام، اطمئن محمد حینما سمع صوت أمه، وأجابھا قائلاً:
لا تخافي یا أمي و توكلي على ﷲ، سوف أذھب وأحُضِرُ المساعدة ولكن أخبریني ھل أبي وأختي بخیر؟ أجابته أمه وفي صوتھا رجفةٌ مبھمة : أختك بخیرٍ یا بني، لكنَّ أباك یحتاج المساعدة بأسرع وقتٍ ممكن فھو جریح، وفي ھذه الأثناء وبینما ھم في صراعٍ مع الواقع، أتت فرقُ الإنقاذ مسرعة لتساعد العائلة المحاصرة في وسَطِ البیت المُدَّمَر.
كان العالم الخارجي قد بدأ في مرحلة الاستنكار والإدانة، وكانت القنوات الفضائیة قد بدأت بعرض أحداث القصة المؤلمة والصعبة، لم یكن لأحدٍ أن یعلم بأن ھذه الضربة ما كانت إلا بدایةً لأحداثٍ أبشع وأفظع من ظلمٍ وإبادة وقصفٍ یرمي بالجمیع في وسط عاصفةٍ من الأحلام الجریحة والآمال الزائفة.
محمد انتھى به المطاف في أحد خیَمٍ مھترئة لا تصلح للعیش، ممزقة، لا تقي من حرٍ ولا برد مع عائلته المكافحة والتي فقدت فرداً مھماً وعزیزاً وغالیاً فیھا ألا وھو الأب لیصبح بذلك محمد ھو المسؤول والراعيَ لعائلته بعمرٍ كان من المفترض فیه أن یعیش طفلاً یسعى لتحقیق أحلامه، قد كُسِرت إحدى جناحَیه ولكنه للآن صامد، لم یستسلم، یرید أن یعیش ویعیل عائلته، لدیه طاقةٌ من التفاؤل وكثیرٌ من الإیمان بالله، یذھب صباحاً لیؤمّن لعائلته كیساً من الطحین ویعود بطلاً حاملاً على ظھره كل العدةِ والعتاد للبقاء على قید الحیاة
وسط عالمٍ یسودهُ الكثیرُ من الظلمِ والحِرمان.
ھو بطلُ وإنما الأبطالُ قلیلون، یرفع رایة الصمود ضد كل من یحاول أخد حریته منه والتي ھي حقٌ ومِلكٌ له.
كیف لا؟ وھو محمد المخترعُ النبیل...