لطالما كانت الحكمة تطارده.. لكنه كان دائما أسرع منها



مهندسة شهد القاضي

 

لطالما كانت الحكمة تطارده كما يطارد النورُ عتمةً غبيةً تأبى الانقشاع.. كانت تلحق به بخطوات وئيدة، لا تتعجّل، واثقة أنّها المصير الذي لا مهرب منه، لكنه كان يظن أنّ سرعة قدميه كافية ليفلت من قبضتها.. كان يعدو في دروب الحياة ركضَ الساذج الذي يخالُ نفسه فارسًا، فيما هو لا يتقن من الفروسية سوى الغبار الذي يثيره وراءه.

أرادت الحكمة أن تمسك بيده لتعلّمه أن الطريق ليس للعدو بل للفهم، وأن البطء أحيانًا أوسع من السرعة، وأن السكون قد يفتح من الأبواب ما لا يفتحه الاندفاع.. غير أنّه كان أعند من أن يتوقف، وأصمّ من أن يصغي، وأعمى من أن يبصر.. كلما اقتربت منه الحكمة بخطوة، قفز خطوة أخرى في جهلٍ أكبر، كأن بينه وبينها ثأرًا قديماً.

كان يظن أنّ مراوغته انتصار، وأن فوزه بالسبق مجدٌ يُدوّن في سجل العظماء، غير عارف أنّه أولُ الخاسرين، وأبعد الناس عن رتبة الإنسان.. فالعقل الذي يُدير ظهره للحكمة، لا يختلف عن سفينة بلا بوصلة، قد تظن نفسها ماضية إلى الشواطئ، بينما هي تدور في محيط الغباء حتى تغرق بلا أثر.

الحكمة لم تكن عدوًا له؛ كانت ظلًّا يرافقه، وصوتًا يهمس في داخله، ونورًا يضيء دروبه المظلمة، لكنه لم يرَ في النور سوى عبء، ولم يسمع في الصوت سوى ضجيجًا، ولم يلمح في الظل سوى طيفًا مزعجًا.. وهكذا ظل يهرب، حتى صار الهروب عادته، وصارت الحكمة مطاردةً لا ملاذًا، وصار الجهل وطنًا يقيم فيه مطمئنًّا، كأنّه أُعفي من ضريبة التفكير.

إنّ أغبى الأغبياء يا سادة، ليس من يجهل، بل من يهرب من الحكمة إذا اقتربت منه، ويُصرّ أن يبقى في الدائرة الضيّقة التي لا يتجاوز حدودها أبدًا، كحشرة أسيرة لولب الضوء، تظنّ أنها في رقصٍ سماوي، بينما هي في انتحارٍ بطيء.

ذلك الذي يهرب من الحكمة، يسبقها في الركض، نعم، لكنه لا يدري أنّ الحكمة لا تُقاس بالخطوات، بل بالوعي.. فكلما ابتعد عنها خطوة، اقترب من هاوية، وكلما سبقها لحظة، تأخر عن عمره سنين.. حتى إذا بلغ المنتهى، أدرك متأخرًا أنّه لم يكن يركض إلا نحو نهايته، وأن الحكمة لم تفعل أكثر من أن تنتظر عند خط النهاية، صابرة، باسمة، لا تُعاند، كأنها تقول: "لقد هربتَ مني طول حياتك… فهل وجدتَ غيري في موتك؟"

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology