أرواح تاهت في زحام الضغوط

 

بقلم الكاتبة الصحفية: سهام فودة 


كنا يومًا أكثر بساطة، نضحك لأسباب صغيرة ونغضّ الطرف عن الهفوات العابرة، لكن الأيام لم تُبقِ لنا تلك الملامح. ضغوط الحياة داهمتنا كما تداهم العاصفة شجرة وحيدة، فانتزعت من أرواحنا ظلال الهدوء، وزرعت مكانها شظايا الغضب. أصبحنا ننفجر من كلمة عابرة، ونخاصم من أجل تفصيلة تافهة، حتى صرنا غرباء عن ذواتنا التي كانت تُشبه النهر حين يجري في هدوء، لا البحر حين يهيج بلا إنذار.

لقد تغيّرنا، ولم نعد نشبه أنفسنا. لم يعد الصبر كما كان، ولا الضحكة كما عهدناها، حتى الودّ نفسه صار هشًا يتكسر عند أول اختلاف. وما عاد السؤال عن السبب مهمًا، فكل واحدٍ منا يحمل في داخله واقعًا موجعًا يخوضه وحده، كجندي مجهول في معركة لا تُرى.

هذا التغيير لم يبقَ حبيس النفوس، بل انسحب على المجتمع من حولنا. صارت علاقاتنا أشبه بجسور معلّقة على هاوية، أي خلاف عابر قادر على إسقاطها. الحوار أصبح مشحونًا، والتواصل أكثر برودًا، والمودة مُثقلة بالخوف. حين يتشقق قلب الفرد، تتصدع معه قلوب الجماعة، وحين تنطفئ شمعة واحدة، يعمّ الظلام على الدائرة كلها. وهكذا وجدنا أنفسنا نعيش في جزر متباعدة، كل واحد يلوذ بصمته، يحرس جرحه كأن الاقتراب خيانة، وكأن المودة رفاهية لم تعد في متناول اليد.

ومع ذلك، ليس كل شيء قد ضاع. فكما تقف الأشجار العتيقة في وجه الرياح لتكتشف قوتها الحقيقية، يمكننا نحن أيضًا أن نُرمم ما تهدم. ربما لا نستطيع أن نعود إلى نسختنا الأولى، لكننا قادرون على صناعة نسخة أعمق وأكثر حكمة. نستطيع أن نتعلم كيف نصنع هدوءنا وسط الضجيج، ونزرع ورودًا صغيرة في حقول أرهقتها الجفاف.

الحياة لن تكفّ عن اختبارنا، لكنها لا تستطيع أن تنتزع منا إنسانيتنا إلا إذا سمحنا نحن بذلك. فلنترك لأنفسنا فسحة من الطيبة، فسحة من الأمل، ونافذة صغيرة يدخل منها الضوء مهما كانت الجدران عالية. فالتغيير ليس دائمًا موتًا للقديم، بل قد يكون ميلادًا لذاتٍ أقوى، قادرة على مواجهة العاصفة دون أن تفقد ظلالها الخضراء.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology