ا
مهندسة شهد القاضي
بعد عشر سنوات من إغلاق المدرسة، تقرّر تحويل المبنى القديم إلى متحفٍ محليٍّ للقرية، تخليدًا "لتاريخ التعليم" كما قالوا.. لكنهم لم يكونوا يعلمون أنّ التاريخ الذي ينوون حفظه، لم يكن مكتوبًا بالحبر… بل بالدم والهمس.
كانت "رُبى" شابة في منتصف العشرينات، عُيّنت مشرفة على تجهيز المكان للمتحف.. درست علم النفس، وكانت تؤمن بأنّ كلّ الظواهر "ما وراء الطبيعة" ليست سوى أوهامٍ بشرية ناتجة عن الخوف والعزلة.. ولذلك، عندما عرضوا عليها المهمة، قالت بثقة:
"لن أخاف من مدرسةٍ فارغة، الخوف يسكن في عقولنا فقط"
لكن في الليلة الأولى، بدأت نظريتها تتصدّع.
---
وصلت رُبى عند المغيب، وبيدها مصباحٌ صغير.. المدرسة ما تزال على حالها تقريبًا، الجدران المتشققة، والصفوف التي تئنّ تحت ثقل الغياب.. وفي نهاية الممر الطويل، رأته… باب صفٍّ مغلق بإحكام، لوحته الخشبية ما زالت تحمل الرقم: (4).. حين اقتربت، لاحظت أن القفل صدئ، لكنه دافئ جدًا كأنه وُضع منذ لحظات.
فتحت الباب.. الغرفة كانت كما هي: طاولات مغطاة بالغبار، وسبورة باهتة، ومقعدٌ أخيرٌ ما يزال في مكانه.. وفوق الطاولة… دفتر صغير.. الغلاف بنفس اللون، لكنّ الغبار لم يلمسه أبدًا.
اقتربت رُبى منه بحذر..حين فتحته، وجدت الصفحة الأولى مكتوبًا فيها:
“مرحبًا يا رُبى، تأخرتِ كثيرًا”
تجمّدت أصابعها.. لم يكن هذا ممكنًا — لم يلمس أحد الدفتر منذ عشر سنوات!
ورغم ذلك، كان الحبر طازجًا... رائحته ما تزال جديدة.
---
في تلك الليلة، لم تنم.. كلما أغلقت عينيها، سمعت صوت أقلامٍ تكتب على الورق.. وفي الحلم، رأت طفلة بشَعرٍ أسود طويل تجلس في المقعد الأخير، تكتب بسرعة وتهمس بكلماتٍ لا تُفهم، ثم ترفع رأسها نحوها وتقول:
“دوري انتهى… الآن دورك”
استيقظت رُبى فزعة، والعرق يغمرها.. حاولت إقناع نفسها أنه مجرد كابوس.. لكن في الصباح، وجدت على الطاولة بجانب سريرها الدفتر نفسه — مفتوحًا على صفحةٍ جديدة كتب فيها بخطٍ متقطع:
“الصفّ الأخير لا ينسى من يقترب منه”
---
قررت رُبى أن تبحث في أرشيف المدرسة.. وجدت تقريرًا قديمًا عن الطفلة "ليان"، مؤرخًا قبل اختفائها بأيام:
“الطالبة ليان تعاني من نوبات هذيان، تدّعي أنها تسمع أصواتًا في الصفّ، وتكتب ما يُملى عليها.. تم تحويلها إلى المستشفى النفسي، لكنها لم تصل إليه”
لم تُذكر أي تفاصيل بعد ذلك.
في ظهر اليوم نفسه، جلست رُبى على المقعد الأخير في الصف الرابع.. فتحت الدفتر، وقالت بصوتٍ مرتجف:
– ليان… من أنتِ؟
لم تأتها الإجابة فورًا.. لكن الكلمات بدأت تظهر على الورق من تلقاء نفسها:
“أنا أول من سمعهم… ولم أستطع الصمت”
“إنهم أطفال الصفّ الذي لم يُكمل عامه الأخير”
“حين احترقت المدرسة القديمة قبل بنائها من جديد، ماتوا هنا، في هذا الصفّ، وظلّوا يكتبون حضورهم كل صباح”
“وأنا… كتبتُ عنهم”
---
تسارعت أنفاس رُبى، لكنها لم تُغلق الدفتر.. كانت تشعر أن قوة خفية تمسك يدها وتجبرها على المواصلة.. الحروف بدأت تتغير، تتحول من كلمات إلى رموزٍ تشبه الطلاسم.. الهواء في الغرفة أصبح أثقل، والبرد يزحف من المقعد الأخير نحوها.
ثم دوّى صوت طبشورٍ يُكتب على السبورة من تلقاء نفسه.. حروفٌ كبيرة ظهرت واحدة تلو الأخرى:
“اكتبي، وإلا ستُنسين مثلنا”
---
عندما عثروا على رُبى بعد ثلاثة أيام، كانت جالسة على المقعد الأخير، تنظر إلى السبورة بعينين زجاجيتين.. أمامها الدفتر مفتوح، وقد امتلأت صفحاته كلها بخطها هي، لكن بخطوطٍ متداخلة وأسماءٍ لا حصر لها.. كانت جميعها تحمل تاريخًا واحدًا: اليوم الذي ماتت فيه الطفلة ليان.
الشرطة أغلقت المكان مجددًا.. قالوا إنها أزمة نفسية، وانتهى الأمر.
لكن في كل عام، في اليوم نفسه، يُرى ضوءٌ خافت في الصف الرابع من النافذة الخلفية،
وصوت فتاةٍ يهمس في العتمة:
"الصفّ الأخير يسمع… والدفتر لا يكتفي باسمٍ واحد"
يتبع...
