د.فاطمة العتابي
ليست كل النوارس التي نراها على الشواطئ ونحن في عرض البحر الهائج رسلاً من برِّ الأمان يهتف بنا من بعيد، فثمة نوارس تأخذ دور الخفافيش فتحلق في الظلام؛ لتنذر الأرواح بشؤم قادم لا سبيل لرده.
لم تكن روحي قد هدأت وقرَّت منذ افترقنا، وكيف افترقنا؟! إنها نهاية غير سعيدة، مثل أغلب قصص الحب في الشرق التي يموت فيها البطل أو البطلة، أو يرغمان على الفراق خوف عار ملزم التوقع..
الفارق الوحيد الذي تختلف به هذه القصة الشرقية النهاية، أنَّك لم ترغم على شيء، فأنا من تجرع مرارة الكأس حتى الثمالة.
وكل تلك المرارة لم تجعلني أهنأ بطعم النسيان اللذيذ، فكلما مرَّت الأيام ذكرتني بك… أنت الذي طعنتني مرة، فكانت طعنتك كحكة لذيذة تنتاب المرء فيشعر معها بشعورين متناقضين؛ شعور يرغب معه في أن لا تنتهي، وشعورٌ يرغب معه في أن تنتهي.
على الرغم من أنفي وأنف العالمين كانت طعنة نجلاء لا يقدر على تسديدها إلا من هو من طراز الجبابرة.. يومها تخيلت نفسي كمن يسير في دهليز مظلم مخيف .. وأنا غير آبهة حتى بشياطين الظلام ومردته، وكيف أخاف شيئا وأنت معي.. ومم أخشى ونورك يسير بين يدي، فيضيء لي حلكة أيامي وليالي على السواء.. أمسك بذراعك بقوة، فأشعر بها تطوقني.. فكيف لي أن أخاف بعد هذا؟ ما كنت في الأقل لأخشى من الجهة التي كنت أشعر بذراعك تطوقني فيها، وتسوِّر حصني... نعم جلّ ما كنت أخشاه أن تأتني طعنة من ذلك الجانب الذي كنت بعيدا منه، وجاءت تلك الطعنة كما كنت أخشى، ولشد ما فاجأتني! لقد كانت من الجهة التي كنت أنت فيها، تطوقني بذراعك، التي خلتها سور سليمان يحوط كبريائي وأحلامي وأوهامي على السواء.
كانت ذراعك هي التي سددت لي الطعنات!
ومثل كل المحبين، وهم يشبهون الغرقى الذين يحلمون بأصوات النوارس، حتى لو كانت نعيبا حزينا، ومثل كل من أعيته الحيل، غاب عني عدد السنين والأشهر والأيام والليالي التي مرَّت وأنا اتخيلك تعود.. ليس لأصفعك أو أرد الطعنة إليك، بل لأغفر لك.. فأنا مازلت متشبثةً بتلك اللهفة التي كانت تبدو في عينيك كلما رأيتني، فتغدو كطفل وجد أمه بعد فراق طويل، تلك اللهفة التي استمرت معك حتى بعد أن كلت لي الطعنات.
وغاب عني أيضا عدد المرات التي فتحت الفأل فيها؛ لأعرف موعد عودتك الميمونة.. ولم أملّ ...وكيف أملُّ، وهي حياتي الوحيدة التي ارتضيتُ؟!
إنها المرة الأخيرة التي رأيتك فيها – كالعادة – لهفتك كادت ترميك من سيارتك المسرعة التي أردت أن توقفها- وأنا أمرُّ أمامك في الشارع- ولكنك لم تستطع.. يومها كنتُ قد فتحتُ الفأل الذي أخبرني بأنك ستعود.. ولا أدري لماذا قررت أنا وللمرة الأولى ألَّا أقبل بعودتك! ربما لأنَّ روحي كانت موقنة بغير ما تأمل منك..
في تلك اللحظة التي رحت أجدُّ في السير مبتعدة حتى لا تلحق بي، كانت نوارسي تحلق بعيدا في ظلام خلفه صوت علا على أصواتها التي تحولت إلى نعيب كئيب، فقدت بعدها وللأبد صوتك ولهفتك، وحتى طعنتك اللذيذة.