بقلم الإعلامي بهجت سعيد- لبنان
تتكدّس الانتماءات في بلادنا عشوائيًا، كارتماء النّهر في حضن اليمِّ، يُحدث تراكمًا يتنبّه له الجميع، ولا يرسم تأثيرًا على ما يحتويه البحر من مكنونات، تُبهر تلك ال"دلتا" كلّ النّاظرين إليها، لكنّها في الحقيقة ليست إلى إحدى تجلّيات عدم امتلاك النّهر القدرة على تغيير مجراه، وهكذا الهويّة لدى شعبنا، متنوّعة، متعدّدة وجاذبة للانتباه، لكنّها لا تعكس الحقيقة، بل تساهم في تحريفها، وتضع حاجزًا إضافيًّا بينه وبين هويّته الحقيقيّة.
يتناثر شعبنا شُعَبًا على قارعة الأمم، ينتمي لكلّ ما لا يجب أن ينتمي إليه، يُحدّد هويّته بحسب أهوائه وأهواء الخارج، فتجده تارةً يُحدّد انتماءه بالانتماء إلى العشيرة أو الفخذ، وتارةً يختصر نفسه بالانتماء إلى الطّائفة أو المذهب، أو يختزل الوطن بالانتماء إلى المنطقة أو القرية، وفي بعض الأحيان العائلة، وفي أخطرها إلى أمّة تُحدّدها إرادات أجنبيّة خارجيّة، لا تُشبهه بشيء... وما بين كلّ هذه الانتماءات الضّيقة، يجد نفسه أبعد ما يكون عن الانتماء لوطنه.
ما بين الهويّة والفرد، هُوَّةٌ لا تنحصر إلّا بالانتماء إلى المجتمع والأرض، إلى حيث حتميّة التّفاعل لا التّبادل، إلى حيث التّراث المشترك، والذّاكرة الاجتماعيّة الواحدة، ما يؤدّي بنا للارتقاء إلى العقل الجمعيّ المتفاعل، ولا ينكفئ شرّها بدون العبور فوق الحواجز الطّائفيّة، المذهبيّة والمناطقيّة، ولا يمكن بلوغ علاج معضلتها إلّا باستئصال مخلّفاتها من دمامل حقدٍ وجهلٍ باتت متأصّلة في نفوسنا، ورجعيّة المغالاة بالإقطاع وبيوته الجاثمة على أحلامنا، وقطع أواصر التّماهي مع إملاءات الإرادات الأجنبيّة اللّاهثة خلف مصالحها فقط.
إنّ الانتماء للأرض جذريّ في خِصاله، يجعل من الشّجر في بلادنا مثمرًا جزيل العطاء، ويبعث الموسيقى الخالدة من حركة الأنهار، ويبصم نسمة الهواء بنقاءٍ لا مثيل له، ويجعل عيوننا تدفق محبّة لكلّ ما هو من بلادنا، بشرًا، حجرًا، سهلًا، جبلًا، نهرًا وبحرًا... عندئذ نتجاوز مرحلة الكمون والبدائيّة نحو مصلحة الارتقاء والتّطوّر المشترك، نرقى لمصافٍ يليق ببلاد خاض شعبها مغامرة العقل الأولى، وأرسى النّشاط الحضاريّ الأوّل في أريحا وحلب ودمشق وبغداد ونينوى، نبلغ عظمة "زنوبيا"، "عشتار"، "إنانا"، وهجّن الحنطة، ووضع أولى شرائع حقوق الإنسان مع "حمورابي"، "لبت عشتار" و"أورنمو"، وصكّ "بانيان" الحمصيّ صكوك العدل على بوّابة روما عاصمة الحضارة الغربيّة، وثبّت مع "جلجامش" أعظم ملاحم الوجود، وتفنّن في ورسم الحرف على بردياته، وأعجز العلماء عن فكّ طلاسم لفائفه المستخرجة من ضفاف البحر الأحمر...
الهويّة الحقيقيّة هي بالانتماء الجماعيّ إلى كلّ ما يوحّد، هي بنبذ كلّ ما يفرّق ويُجزِّء، ويضع شعبنا في معتقلات انعزاليّة باسم المذهب أو المنطقة أو العشيرة والعائلة، الهويّة الحقيقيّة هي بالانتماء إلى ما يجمعنا، فويل لبلاد مقسّمة الانتماءات إلى أجزاء، وكل انتماء وجزء يحسب نفسه وطنًا.
اِنتموا إلى كلّ ما يُشبه جبلة بلادنا الحيّة، إلى حيث غِراس الزّيتون واللّيمون في يافا، ومعقود السّلطيّ في عرائش الجليل، عاينوا شتلة التّبغ في جنوب لبنان بعين المزارع الّذي بقي يزرع حقله رغم أنّ التّنين يفتحه فاهه لابتلاعه على حدوده المصطنعة، ولا تتخاصموا على مَن صنع "حلاوة الجبن" بين حمص وحماه، فهي في جميع الأحوال نتاج شعبنا، وانظروا للبتراء على أنّها أعجوبة فريدة صنعتها أيدي أبناء بلادكم كما صنعت كنيسة القيامة في بيت لحم أو قبّة الصّخراء في القدس، تحسّسوا جماليّة السريانيّة أو الكُرديّة بنفس الفؤاد الّذي يتحسّس جمال العربيّة، قدّسوا ما أنجبته بغداد والبصرة من حضارة، وثبّتوا بوصلة الانتماء في كلّ من عمّان، بيروت، دمشق، حلب وبغداد، لا تفرّقوا بين "أحيرام" في جبيل و"أوغاريت" في اللّاذقيّة، اِشربوا من الفرات وارووا بساتينكم من مياه دجلة، ولا تنسوا أن تعشقوا نهر الأردن، حدّثوا أبناءكم عن أريحا كما حلب، كما الموصل وصور، واغلوا الشّاي مع ميراميّة الجليل وأنتم تتناولون فطوركم في رمضان مع بخبز من قمح حوران وأجبان من ريف الأردن، ممزوج بزيت إدلب وزيتون نابلس أو الكورة، واحيوا أعيادكم بأضاحي من مواشي القامشلي و"بندورة" عمّانيّة وبصل من سهل البقاع في لبنان.
اُخرجوا من عتمة الانتماءات الضّيقة الّتي لا تجمع وتفرّق، خصصّوا لأنفسكم مكانًا تحت الشّمس يليق ببلادكم، أحبّوا بلادكم ففيها الارتقاء.