دكتور توفيق يوسف زيود م /حاضر جامعي
ملخص
يتناول هذا المقال ظاهرة السفر كوسيلة للهروب من الواقع وكوسيلة للاكتشاف الذاتي والثقافي، من منظور فلسفي وإنساني، مع تسليط الضوء على البعد الوطني. يوضح البحث أن السفر ليس مجرد انتقال جغرافي، بل رحلة فكرية ونفسية تعكس علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، حيث يمكن أن يكون الهروب وسيلة للتجدد والتحرر من القيود اليومية، وفي الوقت نفسه وسيلة للاكتشاف والتعلم من الآخرين، بما يعزز فهم الذات والوطن. كما يُظهر البحث كيف يعيد السفر تشكيل الهوية والانتماء الوطني، إذ يحمل المسافر قيمه ولغته وذاكرته الوطنية، ويصبح سفيرًا غير رسمي لوطنه، بينما تتيح تجربة الغربة تعزيز الوعي بالذات واحترام الآخر. ويخلص البحث إلى أن السفر تجربة متعددة الأبعاد تجمع بين الهروب والاكتشاف، والفردي والجماعي، والإنساني والوطني، ويعيد تعريف معنى الانتماء والهوية في سياق عالمي متغير.
مقدمة
يُعدّ السفر ظاهرة إنسانية معقّدة تتجاوز مجرد الحركة الجغرافية من مكان إلى آخر، فهو في جوهره رحلة فكرية ونفسية تعكس علاقة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله. وقد تباينت النظرة إلى السفر بين كونه وسيلة للهروب من الواقع، ووسيلة لاكتشاف المجهول، لكنّ الحقيقة تكمن في أنه يجمع البعدين معًا في تجربة واحدة تُعيد تشكيل وعي الإنسان وموقعه في الوجود. فالسفر، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (Michel de Montaigne)، "هو وسيلة لاكتشاف الإنسان لنفسه بقدر ما هو لاكتشاف الآخرين"، ما يعني أن السفر ليس مجرّد انتقال جسدي، بل عملية داخلية من التأمل وإعادة التشكيل الذاتي.
المنظور الإنساني
من منظور إنساني، يُعتبر السفر انعكاسًا لحاجة الإنسان الفطرية إلى التغيير والتجربة. فالهروب، في سياقه الإنساني، لا يُفهم بالضرورة كضعف أو عجز، بل قد يكون تعبيرًا عن رغبة في التجدد والتحرر من القيود التي تفرضها الحياة اليومية. يرى عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل (Georg Simmel) أن الإنسان "ينشد في السفر توازنًا مفقودًا بين الانتماء والتحرر"، أي أن الفرد يسافر ليجد المسافة المناسبة بين ذاته والعالم، بين ما يعرفه وما يجهله. وعلى هذا النحو، يصبح الهروب عبر السفر فعلاً من أفعال البحث، وليس مجرد فرار من الواقع.
لكنّ السفر لا يقتصر على بعده النفسي فقط، بل يمتد ليشكّل بُعدًا حضاريًا وثقافيًا عميقًا. فالمسافر يواجه عوالم جديدة، ويتفاعل مع ثقافات مختلفة، فيتعلم كيف يرى العالم من زوايا متعدّدة. كما أشار الرحالة الشهير ابن بطوطة، الذي طاف العالم الإسلامي وخارجه في القرن الرابع عشر، إلى أن "من رأى ليس كمن سمع"، مؤكدًا أن المعرفة الحقيقية لا تتحقق إلا بالمشاهدة والمعايشة. هذا النوع من الاكتشاف هو ما يجعل السفر مدرسة للإنسانية، يعلّم الإنسان احترام الاختلاف وتقبّل الآخر، ويدفعه إلى إعادة النظر في أفكاره المسبقة.
المنظور الوطني
أما من منظور وطني، فإن السفر يكتسب بعدًا أكثر عمقًا، لأنه لا يقطع علاقة الإنسان بوطنه، بل يعيد تشكيلها. فالمسافر، حين يغادر أرضه، يحمل معه ذاكرته الوطنية، لغته، قيمه، وهويته الثقافية، ويصبح في رحلته سفيرًا غير رسمي لبلاده. وكما كتب إدوارد سعيد في كتابه خارج المكان (Out of Place)، "أن تكون في المنفى يعني أن تتعلم أن ترى وطنك بعين جديدة"، ما يشير إلى أن الغربة تُعيد تعريف معنى الانتماء. فالابتعاد عن الوطن لا يعني فقدان الهوية، بل هو اختبار لها، يُبرز عمقها وصلابتها في مواجهة الآخر. ولذلك، فإن السفر يخلق نوعًا من الحوار بين الهوية الوطنية والعالمية، يثري كليهما دون أن يلغي أحدهما الآخر.
من جهة أخرى، يرى الكاتب البرازيلي باولو كويلو في روايته الخيميائي (The Alchemist) أن "السفر في الخارج ما هو إلا انعكاس لرحلة داخلية في أعماق النفس"، فالاكتشاف الحقيقي لا يكون في الأماكن التي نزورها بل في أنفسنا التي تتغيّر بفعل التجربة. هذا المفهوم ينسجم مع الفلسفة الوجودية التي ترى أن الإنسان لا يكتشف ذاته إلا حين يضعها في مواجهة المجهول. فالسفر يحرّك في الإنسان أسئلة الوجود والمعنى، ويدفعه إلى التأمل في ذاته، في هويته، وفي علاقته بالآخرين. إنه وسيلة ليتحرّر من العادات الفكرية والقيود الاجتماعية، ويعيد تشكيل وعيه وفق تجربة شخصية حقيقية.
وللسفر أيضًا بعدٌ أخلاقي وإنساني مهم، إذ يتيح للإنسان أن يدرك نسبيّة قيمه ومفاهيمه. فحين يرى الإنسان أنماط حياة وثقافات مختلفة، يتعلّم التواضع الفكري ويدرك أن الحقيقة ليست حكرًا على ثقافة بعينها. وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) عن هذا المعنى حين قال: "من يسافر يتعلّم كيف يعيش لا كيف يهرب"، مشيرًا إلى أن جوهر السفر ليس في الهروب من الذات، بل في تهذيبها وتوسيع أفقها الإنساني. وبذلك يصبح السفر ممارسة أخلاقية تدعو إلى التسامح والتفاهم الإنساني، وهو ما تحتاج إليه المجتمعات المعاصرة في زمن تتسارع فيه النزاعات الثقافية والسياسية.
أما على الصعيد الوطني، فإن السفر يمكن أن يكون قوة إيجابية للتنمية وبناء الهوية. فالمغتربون والطلاب والباحثون الذين يسافرون إلى الخارج يعودون إلى أوطانهم وهم يحملون معارف وتجارب جديدة، تسهم في تطوير مجتمعاتهم. كما أن تمثيل الوطن بصورة مشرّفة في الخارج يعزز صورته على الساحة الدولية، ويجعل من المواطن جسرًا للتواصل الحضاري. وهذا ما أكده المفكر المغربي عبد الله العروي حين قال إن "السفر هو الوسيلة الأولى لتبادل الأفكار بين الأمم، ومن دونه تبقى الشعوب في عزلة فكرية". فالسفر الوطني المسؤول هو الذي يحوّل التجربة الفردية إلى ثراء جماعي.
ورغم أن السفر قد يُستخدم أحيانًا كوسيلة للهروب من ضغوط الوطن أو أزماته، إلا أن هذا الهروب قد يكون بداية لفهمٍ أعمق للوطن نفسه. فحين يعيش الإنسان تجربة الغربة، يدرك قيمة التفاصيل التي لم يكن يراها من قبل. فيكتشف معنى اللغة حين يفتقدها، ويشعر بعمق الانتماء حين يواجه الغربة. لذلك، يمكن القول إن السفر ليس نقيض الوطنية، بل هو طريق لتجديدها. فالمسافر الذي يرى العالم بعين ناقدة يعود إلى وطنه أكثر وعيًا ومسؤولية، وأكثر قدرة على المساهمة في تطويره.
من هذا المنطلق، يمكن اعتبار السفر ظاهرة متعددة الأبعاد تجمع بين الهروب والاكتشاف، بين الفردي والجماعي، بين الإنساني والوطني. فهو يُظهر هشاشة الإنسان أمام المجهول، لكنه أيضًا يكشف قدرته على التكيّف والإبداع. إنه فعل فلسفي بامتياز، لأنه يضع الإنسان أمام سؤال الوجود والهوية والمعنى. وكما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: "من يسافر دون فكرة، يعود كما ذهب"، أي أن قيمة السفر ليست في المسافة المقطوعة، بل في الفكرة التي ترافق الرحلة. والسفر الذي يُبنى على الوعي، لا على الهروب الأعمى، يصبح وسيلة لاكتشاف الذات والوطن والعالم في آن واحد.
الخاتمة
وفي النهاية، يمكن القول إن السفر ليس نقيض الاستقرار، كما أنه ليس هروبًا دائمًا، بل هو حالة من التوازن بين البحث والانتماء. إنه تجربة تُعيد للإنسان إحساسه بالدهشة الأولى، وتذكّره بأن العالم أوسع من حدوده، وأن الوطن أعمق من مساحته الجغرافية. فالهروب في السفر هو بداية الاكتشاف، والاكتشاف هو عودة متجددة إلى الذات والوطن. وفي هذا المعنى، يصبح السفر، كما عبّر الشاعر الأمريكي رالف والدو إيمرسون (Ralph Waldo Emerson), "رحلة من أجل رؤية النجوم من زاوية أخرى"، أي أن جوهره ليس في الوصول إلى مكان جديد، بل في رؤية مألوفنا بعيون جديدة، أكثر وعيًا وأكثر حبًا للحياة وللوطن.