بقلم بلعربي خالد (هديل الهضاب)
مونودراما
(إضاءة خافتة. رجل في منتصف الخشبة، يرتدي معطف العمل الرمادي، يحمل خوذة صغيرة بيده، يتلفّت حوله كمن يبحث عن نفسه في المكان.)
الرجل:
اسمي عبد القادر بن صالح.
عمّال الورشة ينادونني "العمّ قدور".
أعمل هنا منذ... منذ متى؟
(يفكر قليلًا)
منذ أن كان صوت الماكينة أعلى من صوت المدير!
منذ أن كانت رائحة الزيت تغسل قلوبنا قبل أيدينا...
(يبتسم بمرارة)
عشرون سنة... لا، ثلاثون تقريبًا.
في الحقيقة، توقفتُ عن العدّ منذ أن أصبحت أيامي كلها تشبه بعضها.
النهار... صوت الآلة،
والليل... صمت يشبه صدأها.
(يتقدّم نحو مقدّمة الخشبة كأنه يدخل الورشة.)
ها هي... (يشير إلى آلة وهمية أمامه)
ها هي معجزتي الصغيرة...
الآلة رقم 4! كترينة
نعم، هذه التي لا يعمل عليها أحد غيري...
كانت تغضب إذا لم ألمسها صباحًا!
(يقلّد صوت الآلة: طَطَطَطَطَ...)
آه، تسمعون؟ إنها تعرفني...
(يبتسم لها كأنها كائن حي)
صباح الخير يا حبيبتي كترنية الحديدية...
لن نغيب اليوم، أليس كذلك؟ لن يتوقف دولابك إلا معي!
(يصمت. يحدّق أمامه.)
لكن... لماذا اليوم صامتة؟
حتى زملائي صامتون...
كلّهم ينظرون إليّ وكأنني غريب بينهم.
ابتسامة هنا، إيماءة هناك...
ونظرات... آه، تلك النظرات!
(يبدأ يتحدث مع نفسه بصوتين مختلفين، كأنه يسمع ما يفكر فيه الآخرون)
"هذا هو... اليوم الأخير للعمّ قدور..."
(همسات)
"قالوا له؟ لا، لم يقولوا بعد..."
"مسكين، لا يعرف..."
(يضحك و يتعصب)
يعني أنا لا أعرف؟!
أنا أسمع حتى ما لا يقال!
أشمّ الخبر قبل أن يُكتب في الورق!
(يقترب من الجمهور كأنه يسرّ لهم بسر.)
اليوم، عندما دخلت... شعرت أن الهواء نفسه تغيّر...
صار أثقل، كأن الأكسجين ممتزج بالوداع.
(صمت طويل. ينظر إلى الأرض.)
ثم جاء نائب العام...و قال لي:
"المدير يريدك في المكتب بعد الاستراحة."
بهذه البساطة... "يريدك في المكتب."
يا الله، كم في هذه الجملة من رعب!
(يقلّد نفسه وهو يسير بخوف:)
أنا؟ في المكتب؟ لماذا؟
هل انكسرت آلة؟ هل تأخرت؟ لا لا...
الآلة بخير... وأنا بخير...
إلا إذا...
(يتوقف فجأة، كأنه تلقى ضربة.)
ورقة التقاعد؟!
(يضحك بلا صوت)
ها هي الكلمة التي كنت أهرب منها منذ عام...
(يتجه نحو الآلة، يلمسها بخفة.)
هل تسمعين يا كترنية ؟ سيتركونكِ لغيري...
رجل جديد سيأتي... بيدين ناعمتين...
لن يعرف أنك كنتِ تغنين لي في المساء!
(يبدأ يخلع معطفه ببطء، ثم يقف أمام الجمهور.)
قالوا لي: "مبروك، هذا حقك بعد الخدمة الطويلة."
لكنهم لم يروا وجهي وأنا أقول: "شكرًا."
(يهمس)
الشكر أحيانًا تقال لتخفي صرخة.
(يتنفس ببطء، ثم يرفع رأسه.)
عندما خرجت من المكتب...
كانوا جميعًا هناك، في الممرّ...
ينظرون إليّ بنفس الطريقة...
نظرات صامتة، فيها حزن...ووداع.... وفيها راحة!
كأنهم يقولون: " دورنا بعدك، يا عمّ قدور..."
(يضحك ضحكة حزينة)
حتى النظرات تتقاعد قبلي!
(يتراجع نحو الظلّ، صوته يخفت تدريجيًا.)
غدًا... لن أدخل من هذا الباب.
لكن صوت الآلة...
سيظل يدور هنا...
في رأسي.
(يضع الخوذة على الكرسي، ينظر إليها نظرة طويلة، ثم يهمس:)
الوداع يا كترينة الود..اع
عمّك قدور... انتهى.... اليوم الأخير
(إظلام تدريجي. يبقى صوت آلة خفيف يدور حتى النهاية.)