بقلم المهندسة شهد القاضي
في قريةٍ صغيرةٍ تبتلعها الضبابات كلّ صباح، كانت هناك مدرسة حجرية قديمة، تُشبه من بعيد بيتًا مهجورًا أكثر من كونها مدرسة.. جدرانها متشققة، ونوافذها يعلوها غبار السنوات، والريح تمرّ بينها كأنها تهمس بأسماء الذين درسوا ورحلوا… أو الذين لم يرحلوا أبدًا.
كانت "ليان" أصغر التلاميذ في الصف الرابع.. طفلة نحيلة، عيناها واسعتان كأنهما تحملان أسرارًا لا تليق بسنّها.. لم تكن تتحدث كثيرًا، تكتب ببطء، وتجلس دائمًا في المقعد الأخير من الصف، في زاوية مظلمة لا تصلها الشمس، وكأنها اختارت تلك العتمة لتكون غلافًا لأفكارها.
في الأسبوع الأول من الفصل الدراسي، بدأت المُعلمة "سمية" تلاحظ أمرًا غريبًا.. في كلّ مرة تُلقي فيها سؤالًا، كانت ليان ترفع يدها بخفة، ثم تُنزِلها قبل أن تراها المعلمة.. وعندما تُسأل، تجيب بصوتٍ خافت كأنها تكلّم أحدًا غير موجود.. لم يكن ذلك لافتًا في البداية… إلى أن بدأت تكتب كلماتٍ غير مفهومة في دفترها.. كلمات بلغةٍ غريبة، تشبه الحروف العربية ولكنها مقلوبة، وكأن المرآة كتبتها بدل يدها.
ذات صباح، بينما كانت المعلمة تراجع دفاتر التلاميذ، وقعت عيناها على دفتر ليان.. توقّفت.. في الصفحة الأولى، كُتبت عبارة بخطٍ أسود ثقيل:
"الصفّ الأخير يسمع أكثر مما ينبغي"
ظنّت "سمية" أنّها مزحة أو جملة من كتاب قرأته الطفلة، لكنها شعرت بوخزةٍ في صدرها حين رفعت نظرها إلى المقعد الأخير…
كانت ليان تحدّق فيها، تبتسم بخفّة، وعيناها لا تطرفان.
في اليوم التالي، لم تأتِ ليان إلى المدرسة.. سألت عنها المعلمة، فقيل إنّها مريضة.. لكن الغريب أنّ مقعدها ظلّ باردًا رغم حرارة الغرفة.. وكلّما التفت أحدهم إليه، خُيّل له أنّه يرى ظلًّا يجلس هناك، ينظر إليهم بثبات.. حتى إنّ أحد الأطفال أقسم أنّه رأى "دفتر ليان" يتحرّك وحده على الطاولة.
بعد أسبوع، عادت ليان، شاحبة أكثر من قبل.. جلست في المقعد نفسه، لكنّ أحدًا لم يجرؤ أن يجلس بجانبها.. كانت تكتب بلا توقف، تنظر أحيانًا إلى الفراغ، وتبتسم كما لو أنّ أحدًا يهمس لها بأسرارٍ لا يسمعها غيرها.
سألتها المعلمة برفق:
– ليان، ماذا تكتبين؟
فأجابت بصوتٍ واهٍ:
-- أكتب ما يقولونه لي.
– من "هم" يا ليان؟
ابتسمت:
-- الذين في الصفّ الأخير.
في ذلك اليوم، قررت المعلمة أن تراقبها بعد انتهاء الدوام.. اختبأت خلف باب الصفّ بعد أن غادر الجميع، ولم يبقَ سوى ليان.. الطفلة جلست في مقعدها، وضعت دفترها على الطاولة، وأخذت تكتب بسرعة مذهلة.. لم يكن في الغرفة صوت سوى احتكاك القلم بالورق… ثمّ خفّ الصوت، وتوقّف القلم.
رفعت المعلمة رأسها لترى —
لكنها جمدت مكانها.. لم تكن ليان وحدها.. على المقاعد الفارغة جلس أطفالٌ آخرون، وجوههم باهتة كأنّهم من زمنٍ آخر.. كلّهم يحدّقون في المعلمة، بينما ليان تهمس لهم:
– لا تخافوا… هي لن تراكم جميعًا.
صرخت "سمية"، لكن لا أحد سمعها.. المدرسة كانت فارغة، والباب مغلق بإحكام.. اقتربت ليان منها ببطء، قالت بهدوء كأنها تُعلّم درسًا:
– لا أحد يغادر الصفّ الأخير قبل أن يكتب دوره.
في اليوم التالي، وُجدت المعلمة ممدّدة على الأرض، دفتر بيدها، وعيناها مفتوحتان نحو السقف.. لم تُبدِ أي علامة على الحياة، لكنّ الأطباء قالوا إنّها لم تمت تمامًا… بل دخلت في غيبوبة غريبة، بلا سببٍ عضوي واضح.. في يدها اليمنى، كانت تمسك القلم بإحكام، وكأنها كانت تكتب حتى آخر لحظة.
أما ليان، فقد اختفت.. لم يجدها أحد.. قالت أمها إنّها ذهبت إلى المدرسة في الصباح، ولم تعد.. لكن أغرب ما في الأمر، أنّ الدفتر الذي كان مع المعلمة لم يكن دفترها، بل دفتر ليان نفسه…
وعلى الصفحة الأخيرة كُتبت جملة واحدة، بخطّ لم يُعرَف لمن هو:
"حين تسمع الهمس في الصفّ الأخير، لا تلتفت"
مرت السنوات، وأُغلقت المدرسة بعد تكرار الحوادث الغامضة.. يقول من يمرّ بجانبها ليلًا إنّهم يرون ضوءًا خافتًا ينبعث من نافذة الصف الرابع، وأنّ ظلّ طفلةٍ يجلس هناك، يكتب… ثم يرفع رأسه ببطء نحو العابرين.
وفي بعض الليالي، يسمع الحارس الذي وُكّل بحراسة المبنى صوت أقلامٍ تكتب في الظلام، وأصوات أطفالٍ يضحكون بخفّة، ثم يصمتون فجأة.. وحين يدخل الغرفة ليتأكد، لا يجد أحدًا… فقط دفترًا مفتوحًا على الطاولة، وحروفًا تُكتب وحدها:
"الصفّ الأخير يسمع أكثر مما ينبغي… لكنه لا ينسى"
يتبع...