سعيد إبراهيم زعلوك
فَقَدتُ كينونتي وذاتي،
ما عادَ يُثيرني في هذه الحياة شيءٌ،
البحرُ كفَّ عن غوايتي بالغرق،
أريدُ أن أرجعَ لروحي...
أن أبحثَ عن غيمةٍ
فيها مَعانيَ جميلة،
أن أرقصَ ليرتدَّ قلبي طفلًا،
وأغنّي...
علَّ غائبةَ القلبِ تعود.
في هذه الأزمنةِ الباردة،
أرغبُ أن أُحلّقَ
إلى مجرّاتٍ بعيدة،
حيث لا ذكريات،
ولا خناجر مخبوءةٌ في الابتسامات.
هذه الأرضُ تجرّدتْ،
وصارت جرداء،
والبشرُ صاروا أكثرَ وباءً،
لا تطهّرهم ريح،
ولا يغسلهم مطرُ الشتاء،
ولا يتوبون.
قرب الصفصافة،
عند شطّ النهر،
كانت نساءُ الحيِّ
يثرثرن كعادتهن،
ضحكٌ لا طُهرَ فيه،
وصوتٌ لا يَرحم.
هناك...
كانت حبيبتي تحمل جَرَّتها،
وكلُّ قلبِها مكسور،
يبكينها بألسنةٍ غريبة،
ويعرفن أنها عمري...
فلماذا يَسكنُ الكرهُ وجوههن؟
ولماذا تشهقُ الطيبةُ
كلّما مشتْ في النور؟
عند الأصيل،
كُنا نلتقي في صمتِ الماء،
كنتُ أفيضُ حبًّا،
وكانتْ عيناها مأهولتين بالدمع،
وكان هناك، في الهواء،
مخلوقٌ اسمه الحب،
غرسه الله في قلبي،
فأوسعني بكاءً،
وأوسعني قلقًا،
وأوسعني جراحًا.
لكنّ قلبي
ما عَرَفَ له طريقًا إلا الخضوع.
قال لي الحبّ:
"اسكتْ... لا تُجادلْ.
أنا دفءُ ليلِ الغياب،
وسُكرُ الماء الباهت،
وموسيقى الجسدِ المرتجف."
كنتُ أُحبُّه رغم قسوته،
لأجل فتاةٍ
تبكي لأتفهِ الأشياء،
أضمُّها لصدري،
وأقول:
لا تَأسي يا حبيبة،
الزمنُ سيُنصِفُنا،
وسيصمتُ النسوةُ يومًا،
حين تنشغل إحداهن بالموت.
لا يَعلمن أن من يُسمّينها تعيسة
هي أميرةُ القلب،
وساكنةُ القصورِ في دمي،
وأنها إن ضحكتْ
فكلُّ السهول تُزهر.
ذات شتاءٍ،
سنتزوّج.
سأزُفُّ قلبي لقلبها،
وسيزهرُ العشقُ
على مَسمعِ القبيلة.
ابتسامةٌ راحلة،
وأنينٌ يُقيمُ في الأحداق،
وشجنٌ يُقيمُ في الأضلاع،
والصراخُ في جوفي
لا يهدأ... لا يَنام.
أريد أن أستفيق،
أن أوقظَ قلبي من الوجع،
أن أصرخ حتى آخر شريان.
غدًا سيُزهِرُ الليمون،
وسأقول للجنود:
لا تُغادروا الحدود،
فهذا الوطنُ يستحقُّ الفداء،
والحبيبةُ تستحقُّ
أجملَ عُمر،
وأبهى حياة.
قالتْ لي أمّي ذات حنين:
"عِشْ كما تشاء،
واعشقْ كما تهوى،
لكن لا تَخنْ،
ولا تَكذبْ،
ولا تَجرحْ قلبًا يؤمن بك.
لا تكنْ ذئبًا...
فالقلوبُ رقائقُ ماء،
وأنتَ طاهرٌ كالنهر،
فابقَ كما أنت."
ضاقتْ روحي،
ولا شيء يُعيدُ لها السكون
إلا صوتُكِ
ونحن معًا تحت ظلّ الياسمين،
نسمعُ غناء البلابل،
نستعيدُ نزيفَنا،
نصرخُ في العراء،
ونبكي
ونقول: يا رب!
أريد أن أعيش،
أن أُنجب طفلةً تُمجّد اسمك،
أن أُحبَّ على نور،
وأتذكّر أنني من تُراب
لكن قلبي من ضوء.
أنا...
المسكونُ بالحرب،
المُثقَلُ بالموتِ في أضلعي،
لا أموت،
ولا أرتاح.
أُريد فراشًا يليقُ بعروسي،
وطفلةً تشبه أمّها،
تلهو بين ذراعي،
وأصدقاءَ يُحيطون بي،
فقد جئتُ الحياةَ وحيدًا،
ولا أُريدُ أن أحياها وحدي.
بعد موتي...
أُريد دعوةً
تُبلّل قفرَ قبري،
أن أطير،
وأرافقَ الأنبياء،
وأسكنَ تحت أقدامهم،
وأصغي إلى أصواتهم.
يا رب...
اشتقتُ للسماء،
لكلّ البهاء،
فأرضُك لم تَعُد لي،
وقلبي لا يُشبهُ هذا الزمن.
أنا الذي
ما كذبت،
ولا خُنت،
ولا نسيت الصلاة،
وأمّي تدعو لي كلّ فجر،
وأُحبُّ عكاز أبي خلف الباب،
ما نَهَرتُه يومًا،
كنتُ طوعًا لوصاياه...
فيا رب...
خذني إليك،
لكن لا تجعل موتي صامتًا.
اجعل طفلًا يُشبهني
يقرأ اسمي في دعاء،
ويقول:
"كان هنا قلبٌ...
هرب من الأرض
إلى السّماء."
