“خلفك منعطف تاريخي”… حين يصعد المثنّى القواسمه بالمسرح إلى صدارة الوعي

 



كتبت ايمان القيسية 

في لحظة يبدو فيها المسرح العربي وكأنه يلهث خلف زمن لا ينتظره، جاء عرض “خلفك منعطف تاريخي” ليعيد ترتيب المشهد، ويعطي للمسرح الأردني شحنة حياة لم تعد مألوفة في عروض السنوات الأخيرة. لم يكن اختيار المسرحية لافتتاح مهرجان الأردن المسرحي في دورته الثلاثين صدفة ولا مجاملة، بل اعتراف مبكر بأن هذا العمل يتقدّم بخطابٍ فنيّ وفكريّ أوسع مما تسمح به العروض التقليدية.


منذ الدقيقة الأولى، بدا واضحاً أن المخرجة والكاتبة رشا المليفي جاءت برؤية لا تختبئ خلف التجربة الأولى، بل تكشف ثقة فنية ناضجة في صياغة نصّ يفتح جروح التاريخ، ويشتبك مع الأيديولوجيا، ويختبر قدرة المتفرج على تحمل الحقيقة حين تُعرّى بلا تجميل.


وقد تُوّج هذا الجهد بحصول العرض لاحقاً على عدد من الجوائز التقديرية ، 

جوائز ليست رقماً معلّقاً على بوستر، بل اعتراف صريح بأن ما قُدّم ليس عرضاً مسرحياً جديداً… بل حدثاً فنياً مكتمل العناصر.


- المثنّى القواسمه: حين يتحوّل الممثل من “أداء” إلى جهاز إنذار


وجود المثنّى القواسمه على الخشبة ليس حضوراً فحسب… بل اجتياح كامل للفضاء المسرحي. يندفع إلى الدور كمن يفتح بابُا  على عاصفة، ويجرّ الجمهور خلفه بلا تردد. لا يؤدي الشخصية؛ بل يسمح لها بأن تنهض من داخله ككائن مستقل، حادّ، متوثب، يشبه في لحظات كثيرة ضميراً يصرخ من عمق الزمن.


يمتلك القواسمه تلك القدرة النادرة على تحويل جسده إلى ساحة صراع، يتحرّك فيها التاريخ، ويتصارع فيها الوعي الجمعي مع ما ورثه من سردياتٍ مغلقة. صوته يتحول إلى أداة تحليل سياسي، ونبرة الجملة عنده تستحضر طبقات من الذاكرة. أما عيناه، فهما نصٌّ ثانٍ ينهض موازياً للنص الأصلي؛ نصّ لا يُكتب بالقلم بل بالوميض والحدّة والرجفة.


في كل انتقال زمني داخل العرض، يعيد المثنّى كتابة الشخصية من جديد:

مرة برجفة الخائف، ومرة بصلابة المتمرّد، ومرة بتيه الإنسان الذي اكتشف متأخراً أنّه عاش نصف حياته على رواية ناقصة. وحين يصمت، يترك في الفضاء فراغاً يلقي  على المتفرج ضوءاً كاشفاً أقوى من أي حوار.


المثنّى لا يؤدي دوراً؛ بل يتقمّص الفكرة، ويحوّل النص إلى كيان حيّ.

إنه ممثل من طراز نادر، يتعامل مع المسرح كمنصّة بحث، ومع الجسد كوثيقة، ومع الصوت كأداة للتحليل لا للتجسيد فقط.

"جوكر المسرح"  الذي لا يسدّ الثغرات فحسب، بل يصنع منها جماليات جديدة. ممثل إذا حضر، تغيّر إيقاع الخشبة، وتحوّلت كل لوحة إلى حدث مفصلي قائم بذاته.


في “خلفك منعطف تاريخي”، لم يكن أداء القواسمه تمثيلاً…

كان تحوّلاً فكرياً كامل المعالم، كأن المسرحية قامت أصلاً لتكون جسده منبراً وأسئلته محوراً.

 - لغة النص: مواجهة بلا قفازات مع التاريخ والسلطة والدين


نص رشا المليفي جاء مشحونا بوعي فلسفي قلّ أن نشهده في نصوص شبابية. النص لا يكتفي بطرح الأسئلة التقليدية، بل يهاجم بنية الوعي نفسه:

كيف كُتب التاريخ؟

من اختار لنا الحكاية التي صدقناها؟

ومن قرر أن السلطة هي الراوي الوحيد للماضي؟


المليفي ترفض الأجوبة السهلة، وتزرع في النص استعارات تتعامل مع التاريخ ككائن جريح، ومع الإنسان كضحيةٍ وقع بين مطرقة السلطة وسندان الأيديولوجيا. تقاطع السياسة بالدين، وتفكك الخطابان بوعي نقدي يفضح كيف تحولت المفاهيم المقدسة إلى أدوات ضبط، وكيف أُعيد تشكيل الوعي الجمعي ليخدم مراكز القوة، لا حاجات الإنسان.


هذا النص الشرس وجد في المثنّى القواسمه الممثل القادر على تحمّل اشتعاله.

هو لم يؤدِّ النص… بل خاض معركته.


-  الإخراج: هندسة زمنية وبصرية تتحدى الخط المستقيم


اشتغلت المليفي على مسرحية لا تسير على خط زمني صلب، بل على منعطفات، على كسور، على قفزات داخل الوعي، مما جعل العرض يتحول إلى بنية تشبه “دفتر التاريخ” حين تُقلَب صفحاته بعنف.

مزجت الحركة المسرحية بالسيموغرافيا التعبيرية، واستخدمت الضوء والفراغ كأدوات سرد لا كعناصر تقنية. وقد تعاملت مع الممثلين كأجزاء من نص بصري واحد، يتجاوز حدود الحوار.


وتبدو بصمتها الإخراجية واضحة في قدرتها على جعل كل مشهد لوحة مستقلة، دون أن تفقد خيط السرد الأساسي، وهو خيط شائك… لكنه منسوج بذكاء، رغم وجود بعض المشكلات التقنية في العرض الأخير من بطء في تزامن الصوت مع الصورة او استباقية الضوء للمشهد إلا أنه بدا كتكاملية متعمدة لجعل المشهد أكثر واقعية وتواصلا مع الذهنية الحاضرة لدى الجمهور.


الممثلون: بناء جماعي يقوده عقل مركزي 


ظهر الممثلون في العمل كبناء متماسك، سمح للقواسمه بأن يتحرك دون أن يبتلع الخشبة كلها، ودون أن يفقد العرض توازنه. كانت الأدوار مساندة بحق، تؤدي وظيفتها الدرامية بوعي واضح، بينما يبقى المثنّى العقل المحرّك الذي يدير طاقة المشهد كما لو كان “قلب العرض النابض”. ولذا استحق هذا الأداء فعلا مناصفة جائزة أفضل ممثل .


 خاتمة: مسرحية لا تمرّ… بل تبقى


“خلفك منعطف تاريخي” ليست مسرحية للمرور، بل للانتقال.

لا تكتفي بأن تُشاهَد، بل تترك ندبة فكرية في الوعي.

عملٌ يثبت أن المسرح الأردني لم يفقد قوته، بل وجد في هذا العرض فرصة لاستعادة دوره كمنصّة لإحداث بعض التغيير.


وإذا كان تاريخ المسرح قد عرف أسماء تتعلق به الذاكرة لجرأتها، فإن المثنّى القواسمه —بهذا الأداء العابر للحدود—يثبت أنه أحد أهم ممثلي جيله، وأن حضوره على الخشبة ليس حدثاً فنياً فقط… بل حدث ثقافي.


هذه المسرحية ليست “منعطفاً خلفنا”.

إنها منعطف أمامنا…

وتذكير بأن الفن، حين يكون صادقاً، قادر على أن يهزّ الدنيا هزّاً.







إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology