بقلم فاطمة العتابي
كان يفرك يديه الصغيرتين قرب موقد الفحم الذي أوقد في المنزل بدلاً من المدفئة النفطية بعد أن شحت كل مشتقات النفط، ليس في المنزل وحده بل في الحي كله .. راحت عيناه تدوران بفرح طفولي وهو محاط بكل حاشية مملكته التي فقدها فجأة ومن دون سبب، اعترت وجهه الصغير كآبة مفاجئة وقطب ما بين حاجبيه كأنه يفكر وقال في نفسه:
- أتراني سأستعيد عرشي من جديد؟
رأسه الصغير لم يحتمل فكرة أن يبقى ملكاً ضليلاً فراح يسول له بأنَّه سوف يستعيد عرشه أو أنه قد استعاده بالفعل.
لم يكن يعرف أن نهاية مملكته ستكون بهذا الشكل المريع، فجأة تعالت الأصوات كانت أصوات أمه و عماته.. صرخت أمه بشكل هستيري و حملته وهي تكيل الشتائم ، لم يرها تفعل ذلك يوما ولا يعرف لماذا فعلت هذا ؟! . كان يلعب مع ابنة عمته فتعاركا كعادتها و تلقى صفعة على عينه من يدها الصغيرة فكانت كالقنبلة التي فجرت شيئاً ، و كان هذا الشيء هو اليوم ؟! صراخ أمه و شتائمها .. تذكر أنه لوح لها مطمئناً بأنهما سيكملان لعبهما لاحقاً في الوقت الذي كانت امه تحمله وهي تتسلق السلم إلى الطابق العلوي.
ومن ذلك اليوم فقد عرشه ، أصبح مجرد ضيف على من يسكنون الطابق الأرضي، بل ضيف ثقيل لا يرغب فيه، و غالباً ما كان يمسك من يده الصغيرة ليقاد مطرودا إلى حيث والداه، فيبقى يصرخ متمسكاً بالسلالم.
هتفت به ابنة عمته قائلة وهي تفرك يديها بفرح:
.!!! انظر ... نار –
قال مفلسفاً وجهة نظره وهو كثيراً ما يفعل ذلك:
- أتعرفين لماذا أوقدت النار ؟.
فقالت بصوتها المزغرد
- نريد أن نتدفأ عليها .
- صرخ بها وهو يهز يده الصغيرة هازئاً وقال بحزم:
- غبية .. سوف نشوي لحماً .
ثم التفت إلى عمته التي كانت تجلس قربه فقال:
- عمة.. عمة.. سوف نشوي لحماً على هذه النار أليس كذلك؟ .
هزت رأسها وقالت:
- نعم.. سنشوي لحماً.
لم يعجبه جوابها، فقد كان مقتضباً تفوح منه رائحة الاستهزاء.
انتظر طويلاً ولكن اللحم لم يأت، وضع يده على ذراع عمته لينها لما سيقول، ثم سألها مجدداً:
عمة .. عمة.. سنشوي لحماً؟ .
فقالت له نافية هذه المرة:
لا حبيبي.
- إذن لماذا هذه النار ؟!.
- لنتدفأ عليها .
ثم قطب جبينه من جديد و أردف متسائلا :
- لماذا ؟ ! .
- لا نفط لدينا.
نفط ؟ .
لم يفهم شيئاً مما قالت لكنه فهم أنَّ هذه الكلمة الغريبة ( نفط ) والتي يصعب عليه نطق حروفها بتسلسلها الصحيح تعني ذلك ( الماء ) الذي يوضع فوق النار وفي داخل المدافئ، واستغرب لقولها ( لا نفط لدينا ) فأمه تملك الكثير منه، ولو كان كبيراً كفاية لفغر فاه من نفاد هذا الشيء من بلد كل ذرة تراب فيه منقوعة به ...
فكر ثم قال لعمته :
- ماما عندها الكثير من ...
تردد يفكر بالكلمة ثم قال:
الكثير من الفنط .
فضحكوا لكلماته الطفولية البريئة، وقالت الصغيرة وهي تهزا به ضاحكة
- يقول فنط يا غبي مفط .. مفط ..
كانت كلمة ( غبي ) لذيذة الوقع على الموجودين فالغين التي تلفظ جيماً مصرية والصوت الطفولي المزغرد تهيجان في النفوس إحساساً لذيذاً لا يوصف، وتبعث في الغرفة جوا من الدفء لم يبعثه الفحم القليل.
قطب ما بين حاجبيه، لم يرق له كثيراً الوضع، فالفحم القليل لم يكن يبعث حرارة تبعث دفئا حقيقيا في أوصاله الصغيرة .. فرك يديه بقوة .. وتذكر أن ثمة قناني مملوءة بـ (الماء) الذي يوضع في المدافئ تحتفظ بها أمه قرب الطباخ وقد تسكب منها شيئا في القدر عندما تطبخ .. فكر أن يأتي بإحدى تلك القناني لهم وقدَّر أن مثل هذا العمل سيعيد له عرشه من جديد .
نهض بسرعة فائقة وصعد السلالم ركضاً بكل ما أوتي من قوة ، ثم عاد بسرعة أكبر من ذي قبل وهو يحمل تلك القنينة التي أجهدت يديه وصدره الصغير وهو يحملها على صدره.
لم يكن أحد قد تنبه له بعد فتح غطاء القنينة بسرعة وصب ما فيها على الفحم فعلى صوت أزيز الفحم الذي أخذ ينطفئ بسرعة وتعالى الدخان مع أصوات الموجودين حوله وهم يصرخون به.
بعد لحظات كان صوت جديد يعلو وهو محمول على كتف أمه التي أخذت تصعد السلالم وهي تشتم وتتوعد.
