لغة لا تشيخ

 



بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة 


في يومها العالمي لا تحتاج اللغة العربية إلى باقة احتفال، ولا إلى خطبة رسمية تُقال ثم تُنسى، فهي ليست ضيفة عابرة في التاريخ، بل صاحبة البيت، والجدران، والذاكرة. العربية لا تقف في الصف منتظرة التصفيق، بل تمشي واثقة، كأنها تعرف جيدًا أن من يملك المعنى لا يخشى الضجيج.


اللغة العربية ليست حروفًا مصطفة على السطور، ولا قواعد جامدة في كتب الدراسة، بل كائن حيّ يتنفس في أفواه الناس، ويتلوّن بملامحهم، ويكبر كلما ظنّ البعض أنه يشيخ. هي اللغة التي حملت الفلسفة دون أن تتخلّى عن الشعر، واحتضنت العلم دون أن تطفئ دهشة الخيال، وسارت بين قدسية النص وجمال الحكاية بخطى متزنة لا تعرف الارتباك.


الغريب في العربية أنها لا تُحب الاستعراض، قوتها في هدوئها، وسلطتها في مرونتها. تستطيع أن تكون فخمة كقصيدة جاهلية، وبسيطة كرسالة أم لابنها، عميقة كفكرة فلسفية، وخفيفة كضحكة طفل. لا تفرض نفسها بالقوة، لكنها حين تُهمَل، تترك فراغًا لا تملؤه لغة أخرى.


وفي زمن السرعة والاختصار، حيث تُقصّ الكلمات وتُختصر المعاني، تقف العربية شامخة، تذكّرنا بأن بعض الأشياء لا تُختصر دون أن تفقد روحها. ليست عدوة للتجديد كما يُشاع، بل ترفض التشويه، وتقاوم الكسل، وتغضب فقط حين نسيء استخدامها ثم نلومها على ضعفنا.


العربية ليست لغة الماضي كما يحاول البعض تصويرها، بل لغة قادرة على التجدّد إذا وجدَت من يحسن الإصغاء إليها. هي لا تعاند العصر، لكنها تطلب احترامه. وحين تدخل عالم التكنولوجيا أو الإعلام أو الإبداع الحديث، تفعل ذلك بهويتها الكاملة، لا كضيف مُقلّد، بل كصوت يعرف من أين جاء وإلى أين يريد أن يذهب.


في يوم اللغة العربية العالمي، السؤال الحقيقي ليس: ماذا قدمت لنا العربية؟ بل ماذا قدّمنا نحن لها؟ هل عاملناها ككنز حيّ أم كتراث نضعه في واجهة العرض؟ هل استخدمناها بوعي أم اكتفينا بالتحسّر على جمالها القديم؟


اللغة العربية لا تطلب دفاعًا عنها، بل تحتاج شغفًا بها. تحتاج من يكتبها بحب، وينطقها بصدق، ويؤمن أنها ليست عبئًا ثقيلًا، بل جناحًا قادرًا على الطيران. فهي اللغة التي كلما اقتربنا منها، اكتشفنا أننا نقترب من أنفسنا أكثر.


وفي يومها العالمي، لا نقول للعربية: كل عام وأنتِ بخير، بل نقول لأنفسنا: كل عام ونحن أقدر على فهم هذه اللغة التي لم تخذلنا يومًا، حتى حين خذلناها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology