حكاية لا تُروى إلا بالاحتراق



*بقلم: سامية كيحل – سفيرة التحدي والسلام*


**"ثمّة لحظات لا تُنذر بقدومها، لكنها حين تطرق أبوابك، تُبدّد يقينك القديم، وتُجبرك على أن تولد من رمادك.  

هناك حيث الألم لا يُفسَّر، بل يُعاش… وهناك فقط، تعثر على حقيقتك."**


الحياة لا تمنحنا ترف الاختيار دائمًا، لكنها تُبقي لنا فسحة التأويل. الألم ليس مطرقة عشوائية تهوي فوق الرؤوس، بل هو سؤال عميق عن معنى البقاء وسط الخراب.  

ثمة من يهرب منه، وثمة من يصنع منه سلّمًا نحو ذاته الأعلى.  

وأنا لم أُخلق لأُهزم، بل لأفهم، لأتألم، ثم أنهض… لا كما كنت، بل كما يليق بمن دخل الجحيم وخرج حاملاً نورًا لا يُطفأ.


لم يدخل المرض حياتي دخول العابرين، بل انساب كقَدَرٍ يعرف جيدًا طريقه إليّ.  

لم يطرق بابي، بل اجتاحني كالإعصار، واقتلع ملامحي القديمة بلا رحمة.  

في لحظة ما، أدركت أن بعض التحولات لا تحتاج إذنًا، بل تأتي لتكتبك من جديد، سطرًا بعد سطر.


كنت أقاوم كمن يصارع نفسه، أرفض كأنني أُصارع اختفاءي، أغلق أبواب الإدراك حتى لا أسمح للحقيقة بأن تُعلن انتصارها.  

ركضت خلف وهم العودة، خلف صورة لذاتي التي كانت، غير مدركة أنني في كل هروب… كنت أقترب أكثر من ذاتي الحقيقية.  

لكن الألم كان صبورًا، ينتظرني أن أستسلم… لا له، بل للحقيقة.


ولم يكن الألم عارضًا بيولوجيًا، بل كائن يتسلل خفية، يعيد تشكيل الروح على مهل.  

أدركت متأخرة أن وجعي لم يكن فقط في العظم أو الجسد، بل في انهيار مفاهيم كنت أظنها ثابتة.  

فالألم حين يتغلغل، لا يكتفي بإيلامك… بل يعيد تعريفك.


العكاز لم يكن خشبة وحسب، بل كان امتدادًا لكرامتي بطريقة جديدة.  

أمسكت به لا كعجز، بل كترجمة ملموسة لصراخي الداخلي: "أنا هنا رغم كل شيء!"  

كان العكاز قوتي… كان رسالتي الصامتة للعالم: أنا لا أضعف، أنا فقط أُعيد ترتيب خطواتي.


أما الكرسي المتحرك، فقد دخل حياتي على هيئة قيد، لكنني ما لبثت أن كسرت هذا الوهم.  

شعرت بالخوف، نعم، لكنه لم يكن نهاية. بل كان نقطة التحوّل.  

حوّلت خوفي إلى إصرار، وبدّلت نظرتي للكرسي من عائق إلى وسيلة جديدة للسير في دروب مختلفة.  

كنت حرّة في التنقّل، راضية، وكان عندي التسليم… ذاك التسليم العميق الذي لا يعني الانهزام، بل يعني التصالح مع قدر يصنعك من جديد.


لم يكن ما مررت به مجرد فصول من الألم، بل مقدمات لدرس وجودي أعاد تعريف كل شيء.  

وما ظننته اختبارات عابرة، كان تمهيدًا لامتحان مصيري.


في أقل من عام، خضت أربع عمليات جراحية، كل واحدة منها كانت معركة بين الحياة واللاعودة.  

لكن العجيب… أنني لم أستسلم، بل في لحظات الوجع القصوى، كنت أتذوق الألم كأنني أتذوق الحياة ذاتها.  

كان يشقني، نعم، لكنه يعيد خلق شيء نقيّ بداخلي.  

كل عملية كانت تقرأني، وتكتبني، وتكشف لي أنني أملك بداخلي طاقة لا تنضب، فقط كانت تنتظر أن تستيقظ.


العلاج الطبيعي لم يكن مجرد تمرين عضلي، بل تمرين روحي.  

خطواتي الأولى كانت صرخات تُنحت من داخلي، لكنني كنت أبتسم.  

كنت أقول لنفسي: "أنا أمشي… إذًا أنا أنتصر."  

وسرعان ما صار الألم لا عدوي، بل دليلي… صار يمشي بجانبي لا ليؤذيني، بل ليقودني نحو القوة الكامنة في كل وجع.


لم تعد رحلتي مع الألم معركة، بل حوارًا مفتوحًا مع الوجود.  

أنا الآن لا أُصارع الألم، بل أُناقشه، أُصادقه، وأُحيله معنى.  

أنا سامية… لستُ ضحية. أنا فلسفة تمشي، تفكر، تُجاهر بالوجع وتُحيله درسًا.  

لم أعد أبحث عن نهاية للقصة، بل عن عمقها… عن فهمها الحقيقي.  

فالحياة ليست راحة، بل وعي مستمر بأن كل شيء يمكن أن يتحوّل إلى جمال إذا فهمته.


نعم، أنا سامية. لا أطلب شفقة، ولا أُحب الألقاب.  

أنا امرأة أعادها الألم إلى حقيقتها، وغسلتها النكبات بنور لا تراه العيون، بل تبصره الأرواح.  

فالسعادة مرحلة، أما الألم… فهو المعلم الأول، والبصيرة العُظمى، والمعنى الذي لا يموت.


**أنا سامية…  اتحدى التحدي وأقهر المستحيل.**

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology