بقلم يوسف اليامي
أعرف... أعرف كم أن الانتظار مؤلم. أعرف مرارة الوقوف على رصيف الحياة، وأنت ترى القطارات تمرّ واحدًا تلو الآخر، وكلها تمضي نحو أماكن لا تعرفها، وكل من حولك يصعد، يرحل، يتحرك، يختفي. تبقى أنت، وحدك، وحقائبك التي لم تعبّئها بالضرورة وجهةً، بل مجرد صبر.
لكن تذكّر، ليست كل حركة تعني تقدّمًا، وليست كل رحلة بدايةً لحياة، وأحيانًا، الركوب في القطار الخطأ أكثر وجعًا من البقاء في محطة الانتظار.
لا تركب القطار لمجرد أن الجميع صعد، لأنك لست "الجميع". لست نسخة من أحد، ولا ملزَم أن تعيش حياة لا تشبهك فقط لأنك خفت أن تُتهم بأنك "متأخر"، أو "بلا هدف"، أو "ضائع". أحيانًا، الضياع الحقيقي يبدأ عندما نظن أننا وجدنا الطريق.
كثيرون ركضوا إلى مقاعدهم في قطارات لا يعرفون إلى أين تمضي، لمجرد أن لحظة الفراغ أخافتهم، وأن صوت الصمت في رؤوسهم كان أعلى من قدرتهم على تحمّله. كثيرون خافوا من أن يُقال عنهم إنهم "فشلوا"، فركبوا قطارات النجاح الزائف، المجوّف، المحشوّ بتوقعات الآخرين، لا بأحلامهم الخاصة.
كم منّا الآن يعيش حياة ليست له، يشارك في سباق لم يختره، ويضحك في صور لا تعكس صدقه، ويجامل في أماكن لا تشبه روحه؟ فقط لأن قطارًا ما جاء وفتح بابه، فقفز دون أن يسأل نفسه: هل هذا ما أريد فعلًا؟ هل هذه الوجهة تشبهني؟ هل هذا الركّاب يفهمون لغتي؟ هل هذه المقاعد تحتمل حقيبتي التي أثقلها ما لا يُقال؟
الصبر مؤلم، نعم، والانتظار ينهش القلب، لكن ثمن الخطأ أوجع. لأنك حين تركب القطار الخطأ، لا تدفع فقط ثمن تذكرتك، بل تدفع ثمن عمرك، وهدوءك، وصدقك مع نفسك. تدفع ثمن كل "تقبُّلٍ زائف"، وكل "ضحكة مجاملة"، وكل لحظة تقول فيها لنفسك: "مو مشكلة... أقدر أتحمل" وأنت تنزف بصمت.
تذكّر: هناك فرق بين أن تتألم في انتظار ما يشبهك، وبين أن تتألم في مكان لا يشبهك ثم تُملي على نفسك الصبر لأنه "لا عودة الآن".
لا تظن أن كل من وصل كان يعرف إلى أين هو ذاهب، كثير منهم فقط لم يتحمّل الجلوس على رصيف الوحدة، فهرب من ذاته إلى الزحام.
كن من الذين يعرفون قيمة التريث. من الذين حين يركبون القطار، يفعلون ذلك بثقة لا بتردد، بحب لا بخوف، بإرادة لا بدافع الهروب. انتظر القطار الذي يمرّ على محطات تشبهك، وتقلّ أرواحًا تفهمك، ويقودك إلى مكان فيه شيء منك، شيء تفتقده، شيء نقي، شيء يشبهك أكثر من كل ما حاولت تقليده في الآخرين.
اجلس على الرصيف حتى تأتي رحلتك. حتى إن طال بك الزمن، لا تركب فقط لأنك خفت أن تُنسى. الروح تعرف متى تمضي، ومتى تبقى. لا تساوم على قرارك فقط لأن الانتظار متعب. أحيانًا، التعب هو الطريق الحقيقي للراحة، وأحيانًا، من يصبر على اللحظة، يصل إلى زمنٍ لا يشبه لحظة واحدة مما مضى.
اصبر... لأنك تستحق الرحلة التي خُلقت لها، لا التي فرضها الخوف.