تخيّل... للمرة الأولى

 


سعيد إبراهيم زعلوك

تخيّلْ...

أنك تخرجُ من بيتكَ للمرةِ الأولى،

وتمضي في الطريقِ كأنكَ تولدُ الآن،

كأنكَ لم تعرفْ من الدنيا سوى هذا الفجر البكر.


تفتحُ عينيكَ على الفضاءِ كمن يُبصرُ الوجودَ لأولِ مرّة.

ترى السياراتِ تمضي وتعودُ، كأنها أنهارٌ من ضوءٍ وصدى.

تسمعُ صفاراتِ الإنذار،

وألوانُ الإشاراتِ تتراقصُ كنبضِ مدينةٍ لا تنام.


تمرُّ بالباعةِ الجائلين،

بأكفٍّ تنادي،

وأصواتٍ تعبقُ برائحةِ الخبزِ والحنين،

وترى جرائدَ الصباحِ تطيرُ من بينِ الأصابع،

كأجنحةِ يومٍ لم يُكتب بعد.


الأشجارُ مصطفّةٌ كأنها تصلي على جانبي الدرب،

والمباني شامخةٌ كقصائدَ حجر،

وفي الزاويةِ... ماسحُ أحذيةٍ يلمّعُ وجوهَ الأيام بيدٍ صامتة.


تلمحُ طفلةً جبينُها قمرٌ،

وطفلًا يركضُ خلفَ ظلّه كأنه يطاردُ الغد،

وترى شيخًا يمسكُ بكفّ زوجتهِ العجوز،

كأنهما يشدّان معًا على آخرِ خيطٍ من دفءِ الحكاية.


تدخلُ مقهىً فسيحًا،

وتجلسُ على أريكةٍ بجانبِ النافذة،

تشهدُ عاشقينِ يتبادلانِ جرعةَ همس،

وعلى فمِ اللقاء... تبتسمُ الحياة.


تمرُّ شابةٌ ثلاثينية،

تمسكُ بيدٍ طفلها،

وبالأخرى أكياسَ خُضرٍ وفاكهةٍ تعبقُ بالسوق،

تمضي كأنها لحنٌ يعودُ من عناءِ النهار.


تستقلُّ الباص،

وتمضي تتأمّلُ طرقاتِ المدينة،

هذه مدرسةٌ تضجُّ أسوارُها بصوتِ الطفولة،

وهناك كنيسةٌ تُقرعُ أجراسُها،

ومئذنةٌ تشقُّ السماء بالأذان،

ومن بعيدٍ... دخانُ مدخنةٍ قديمة

يعلو في الأفقِ كأنّ المصنعَ ما زال يؤمنُ بالتعب.


تخيّلْ... أنك ترى كلَّ هذا الآن،

لأولِ مرة، بعينٍ لا تعرفُ الاعتياد،

ولا تشبهُ شيئًا سوى الدهشة.


حينها فقط،

ستدركُ أن الجمالَ في هذه الحياةِ أكثرُ اتساعًا من كلّ ما يُقال،

أبهى من صورِ الحرب،

وأصدقُ من مشاهدِ الموتِ المتكرّرة.


ستدركُ أن في زحامِ العالم...

ثمّةَ أملٌ لا يموت.



إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology