"زمن الأقنعة.. حين تصبح الطيبة تهمة والصدق جريمة"

 


بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة 


في زمنٍ تاهت فيه القلوب، وانكسرت فيه المعاني النبيلة على أرصفة المصالح والمظاهر، باتت الطيبة تُقرأ كضعف، والصدق يُفسَّر كجهل، والرزانة تُرمى بالجمود. أصبحنا نتألم ونبكي ونلوم صفات نفتخر بها سرًّا، ونتبرأ منها جهرًا. لكن مهلاً، هل نحن حقًا كما نظن؟ هل قلوبنا ما زالت تحمل كل هذا النقاء؟ أم أننا نعيش تناقضًا صارخًا بين ما نُظهره وما نُخفيه؟!



 الحقيقة المُرَّة


كثيرًا ما نردد: "تعبنا لأننا طيبون"، "خُدعنا لأننا صادقون"، "تألمنا لأننا نملك قلوبًا بيضاء"... ولكن الحقيقة المؤلمة هي أننا لو كنا فعلًا نتمسك بهذه الصفات كما ندّعي، لما كان هذا حالنا.


لو كنا صادقين فعلًا، لما ملأت الخيانة علاقاتنا.


لو كنا طيبين بحق، لما كسرنا خواطر من حولنا بلا مبالاة.


لو كنا راشدين في نفوسنا، لما احترفنا الخصام، ولما شوهنا صور بعضنا بعضًا بألسنة مسمومة.




وللاسف نحن نعيش في زمن الأقنعة، حيث يختبئ الإنسان خلف مظهرٍ يصنعه بعناية، يخفي به حقيقةً لا يجرؤ على مواجهتها حتى مع نفسه.


يتحدث عن الطيبة وهو لا يعرف الرحمة في قراراته.


يُمجّد الصدق وهو يكذب ليلاً ونهارًا ليكسب إعجاب الناس.


يرفع راية المبادئ، بينما يبيع ضميره في أول مزاد للمصالح.


كلنا، بشكل أو بآخر، نرتدي أقنعة تُرضي من حولنا، وتخدع حتى أنفسنا. نُجمل صورنا في المرآة الاجتماعية، ونُسكت ضمائرنا بأننا "أفضل من غيرنا".



ضاعت الحقيقة بين ما نقوله وما نفعله. بين ما نُعلن وما نُخفي.


لم نعد نعيش صفاتنا الجميلة، بل نتمناها دون بذل جهد حقيقي لنكونها.


صرنا نُقدّس المظهر ونتجاهل الجوهر. نتفنن في صناعة صورة مثالية أمام الآخرين، بينما تنهار نفوسنا في الداخل.



لماذا لا نتمسك بصدقنا؟


كم كان سيختلف حالنا لو تمسّكنا بطيبة القلوب لا بشعاراتها!


كم كنا سننعم بالسلام لو صدقنا في أفعالنا كما نُحسن في كلماتنا!


الصدق، والرحمة، والنُبل، ليست صفات نُرددها في أحاديثنا، بل أخلاق نعيش بها ونتحمّل تكلفتها.


هي ليست درعًا يحمينا من الأذى دائمًا، لكنها مرآة تعكس نقاءنا حتى لو كسّرتها قسوة الآخرين.



 الطريق إلى السلام الحقيقي


لنبدأ بصدقٍ مع أنفسنا، لا نريد أن نتجمّل بعد الآن.


لنزرع فينا ما نبحث عنه في الآخرين.


لنُحيي القيم التي نغني بها ثم نُخالفها في أول امتحان.


ليكن طيب القلب قويًا، صادق الكلمة شجاعًا، ورزين النفس حرًا لا يُجامل على حساب ذاته.



العيب ليس في صفاتنا النبيلة، بل في أننا توقفنا عن عيشها بصدق، وبدأنا نستخدمها كذريعة لهروبنا من مسؤولية التغيير.


فلو كانت الطيبة تعني الضعف، لما أوصى بها الأنبياء.


ولو كان الصدق سذاجة، لما كانت أول منجاة.


دعونا نخلع الأقنعة، ونرجع للإنسان فينا... ذاك الإنسان الحقيقي، البسيط، الصادق... الذي إن قال فعل، وإن وعد أوفى، وإن أحب لم يخن.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology