بقلم: رنا الطويل
في عتمة الغرف المغلقة، حين يخفت ضجيج العالم، نسأل أنفسنا: “من أنا؟” لكن الإجابة غالبًا ما تتعثر… ليس لأننا لا نعرف، بل لأننا تعلّمنا طويلاً كيف نبدو، لا كيف نكون.
منذ اللحظة التي بدأنا فيها الوعي بالوجود، كان هناك دائمًا من يُشير إلينا، يُقيّمنا، يُخبرنا بما ينبغي علينا أن نكونه، وما لا يليق بنا أن نظهر به. فكبرنا ونحن نُصغي لذلك الصوت غير المنطوق، صوت المجتمع الذي لا ينام، والذي يتحدث إلينا في تفاصيل صغيرة: في طريقة جلوسنا، في ضحكتنا، في خياراتنا، وحتى في أحلامنا.
لم نُدرّب على معرفة ذواتنا، بل درّبونا على كيف نبدو مقبولين. لم يُعلّمونا كيف نكون صادقين مع أنفسنا، بل كيف لا نُحرجهم بصدقنا. ومع الوقت، أصبح كل اختلاف يُقلقنا، وكل شعور صادق نُحاول تغليفه بلغة تُرضي “الذوق العام”. نُضحّي بأصواتنا الداخلية كي لا نُزعج الصمت الجماعي المزيّن بالمجاملات.
المثالية التي فُرضت علينا ليست فضيلة، بل عبء. هي تلك الابتسامة التي نُجبر على ارتدائها، حتى عندما نكون على وشك الانهيار. وهي القالب الذي لا يتسع لكل ما فينا من حياة، من شغف، من جنون، ومن صدق. هي التجميل المستمر لواقع لا نحبّه، فقط لأننا خائفون من أن نُرى على حقيقتنا. وخلف تلك الابتسامة المرسومة، هناك أنفاس تختنق، وأرواح تتآكل في صمت.
بتنا نُراقب أنفسنا أكثر مما نعيشها. نخشى أن نُخطئ، أن نعبّر، أن نكون مختلفين. كأننا نعيش على خشبة مسرح، نُتقن الدور، نضبط الإضاءة، نُكرر النص، ونتجنّب الارتجال. كلّ ذلك كي لا نكسر التوقعات. حتى الأحلام، لم نعد نرسمها كما نريد، بل كما تُرضي المشاهدين من حولنا.
نخاف أن نكون صاخبين حين يجب أن نكون هادئين، أن نكون حسّاسين حين يُتوقع منّا القوة، أن نُعلن حبّنا علنًا، أو نبوح بوجعنا دون تلميح. نخشى أن نكون بشرًا، لأننا مطالبون دومًا أن نكون “أفضل نسخة من أنفسنا”، لا كما نرغب، بل كما يرغب “الجمهور”.
لكن، من هذا الجمهور؟ ومن قال إن الجميع يتوقّع منّا ذات الصورة؟ الحقيقة أننا أسرى لنسخة متخيلة من الآخر، نُحاول إرضاءه دون أن نعرفه. فنُعدّل ذواتنا مرارًا، وفي كل مرة نفقد شيئًا صغيرًا من حقيقتنا، حتى لا نعود نعرف إن كانت هذه الحياة التي نعيشها قد اخترناها، أم تم فرضها علينا باسم القبول، وباسم “الناس شو بيحكوا؟”
الاختلاف ليس ضعفًا، بل هو دلالة الحياة. لا يمكن للإنسان أن يزهر داخل قالب لا يشبهه. المجتمعات التي تكمّم أفواه المختلفين لا تتطوّر، بل تتآكل من الداخل. والمثالية التي لا تحتمل الخطأ، ليست واقعية، بل سطحية. وحده الإنسان الذي يُشبه نفسه، هو القادر على إحداث الفرق، لا ذلك الذي يذوب في الجماعة ليفقد صوته.
في داخل كلٍّ منا صوتٌ يعرف الحقيقة، لكننا اعتدنا إسكاته. اعتدنا أن نسير مع التيار حتى لو حملنا إلى أماكن لا نحبّها، لأننا نخشى أن نسبح عكسه. لكن متى كانت الحياة الحقيقية سهلة؟ ومتى كان الصدق خاليًا من التحديات؟ ربما يكمن الجمال في المجازفة، في اختيار الذات على التوقع، وفي منح أنفسنا الإذن بأن نكون كما نحن، بلا زينة، بلا رتوش، وبلا قناع.
ربما نحتاج فقط إلى لحظة صدق، مع أنفسنا أولًا، نسأل فيها:
من أنا حين لا يُراقبني أحد؟
من أكون حين لا أنتظر تصفيقًا؟
هل أعيش حياتي، أم أعيش توقعاتهم؟
حين نجرؤ على الإجابة، تبدأ أولى خطوات الشفاء.
حين نُشبِه أنفسنا، لا نُشبه أحدًا، ونكون بذلك قد بدأنا فعلًا أول فصول الحرية.