كتبت تغريد بو مرعي - لبنان - البرازيل
نعيش في زمن تتداخل فيه حدود الوهم والواقع، حيث يُختصر فهمنا للوجود ضمن أطر مادية ضيقة، وحيث يطغى ضجيج الحياة الحديثة على الصوت الخافت للروح. تروي لنا المنظومة السائدة أننا مجرد كائنات بيولوجية، نتاج عشوائي لتطور أعمى، خُلقنا لنأكل ونبني ونموت. ولكن، في أعماق كلٍّ منّا يقاوم هذا السرد صوتٌ خافت، وحنين، وهمسة، وشرارة. شرارة ليست من هذا العالم، بل إلهية، أزلية، تنتظر أن تُوقظنا وتعيدنا إلى حقيقتنا الأصيلة.
منذ ولادتنا يُقال لنا ماذا نؤمن، وماذا نخاف، وماذا نسعى إليه، وما الذي يجب أن ننبذه. التعليم، الإعلام، المؤسسات، بل حتى العادات، كلها تشارك في بناء وهم كبير. نُلقَّن تقديس المرئي والمادي، ونُربى على ألا نثق إلا بما يمكن لمسه ووزنه وتحليله. لكن هذا الفهم أشبه بمحاولة إدراك المحيط من خلال قطرة واحدة. ما نراه ونلمسه ونشعر به بالحواس ليس إلا جزءًا ضئيلًا من واقع أعظم. وكما لا يمكن للعين أن ترى نفسها دون مرآة، لا يمكن للعقل أن يدرك الروح دون تأمل.
فكرة أننا نعيش في محاكاة قد تبدو ضربًا من الخيال، لكنها تحظى اليوم باهتمام كبير في الفلسفة والروحانيات وحتى بعض نظريات الفيزياء. لقد تحدثت التقاليد الروحية القديمة عن "المايا" — أي الوهم. وتشير ميكانيكا الكم إلى أن الواقع يتشكل لحظة الملاحظة، مما يلمح إلى دور الوعي في صناعة ما نعتبره "حقيقيًا". كل هذا يقودنا إلى حقيقة واحدة: هذا الواقع المادي ليس الحقيقة النهائية. نحن كائنات نور ووعي، نعيش في أجساد مؤقتة، والحواس تخدعنا بعرض مشوَّه للوجود.
اليقظة لا تعني رفض الجسد، بل تجاوزه. وجودنا الجسدي بوابة، لا سجن. لسنا مجرد عقول في أجساد، بل أرواح لها القدرة على رؤية الملموس واللاملموس. الشرارة الإلهية فينا هي بوصلتنا. هي الحدس، والإلهام، ولحظات الصفاء التي تخترق الضباب. هي المحبة التي لا شرط لها، والسلام الذي لا سبب له، والحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان. تجاهل هذه الشرارة هو بقاء في الغفلة، أما احتضانها فهو بداية الصحوة.
الكلمات طاقة. ليست مجرد رموز، بل ترددات تهز الروح. "في البدء كانت الكلمة"، وفي كل كلمة تُقال بنيّة صافية، تكمن بذرة خلق. حين نستخدم الكلمات للإلهام، والارتقاء، والإيقاظ، نعيد للغة رسالتها المقدسة. الشعر، الصلاة، القصص — ليست مجرد فن، بل بوابات. نُبصر من خلالها أنفسنا الحقيقية، ونتذكر أننا لسنا مجرد لحم ودم. نتذكر أننا إلهيون.
الصحوة ليست هدفًا بعيدًا، بل هي في أنفاسنا. تبدأ عندما نتوقف لنسأل، وعندما نصغي للصمت بين الأفكار، وعندما نسمح لأنفسنا بالشعور بما يتجاوز المنطق. تنمو عندما نُدرك الجمال — لا في الطبيعة فقط، بل في صبر القلب الإنساني. تتسع عندما نختار الرحمة بدل الحكم، والحضور بدل التشتت، والمحبة بدل الخوف. كل خيار نتخذه إما يرسّخ الوهم أو يكسره.
استعادة جوهرنا الروحي فعل شجاعة. تعني أن نلتفت للداخل حين يُطلب منا النظر للخارج. أن نثق بعلم داخلي لا يمكن تفسيره دائمًا. أن نحترم المجهول والمقدس. وعندها نبدأ العيش لا كآلات تسير وفق برامج، بل ككائنات مضيئة تحمل رسالة سماوية.
الحقيقة ليست مخفية في زاوية نائية من الكون. إنها فينا. نحملها في ضحكاتنا، ودموعنا، وتساؤلاتنا. نحملها في فنوننا، وأحلامنا، واشتياقنا. الحقيقة أننا لم نكن يومًا منفصلين عن الإله. فقط صدّقنا ذلك. الحجاب ليس في الخارج، بل في الذهن. ولكي نرفعه، علينا أن نصغي، ونتجرأ على الإحساس، ونستعد للتذكر.
فلنشعل الشرارة. فلنقل كلمات توقظ، ولنحيا حياة تعكس القداسة، ولنسر في دروب تؤدي إلى داخلنا. ففي المركز الهادئ لأرواحنا، تنتظر الحقيقة — أزلية، حرة، وصبورة.