مسكتُ القلم لأكتب همومي، فبكى القلم قبل عيوني



 الكاتب / يوسف اليامي

ما أثقل الحروف حين تكون محمّلة بالأنين…

وما أقسى الورق حين يتحوّل إلى مرآة تعكس وجعًا حاولت إخفاءه طويلًا.


أمسكتُ القلم لا لأنني أردت الكتابة، بل لأني كنت أهرب… أبحث عن مخرج من داخلي، عن صوتٍ يفهمني حين خانني الكلام، عن شيءٍ يصرخ بدلًا عني، يبوح بما عجزتُ عنه، ينوح بدل دمعي ويكتب بدل حنجرتي المختنقة.


لكن القلم ارتجف بين أناملي، ثم بكى…

وكأنّه فهم قبل أن أكتب، وكأنّه عرف أنّ ما سأقوله أكبر من الحبر، أثقل من السطور، أعمق من أي وصف.

بكى القلم لأنه شعر أنني لا أبحث عن نص، بل عن نجاة…

وأنني لا أكتب لأحكي، بل لأتنفس، لأعيش.


يا لهذا الحزن الذي يسكنني،

كأنّي أحمل بداخلي سنواتٍ من التعب،

أحمل وجوهًا غادرت، وأحلامًا انكسرت، وأماكن صارت ذكرى مؤلمة،

كأنّي حين أكتب، أبعثر أجزاء روحي على الورق وأتركها هناك… لعلها ترتاح.


كل مرة أحاول أن أختصر حزني بجملة، تنفجر في صدري ألف رواية…

وكل سطر أكتبه، يشعل بداخلي نارًا كنت أظن أنني أخمدتها.


أكتب لأهرب من صمتي، لكنّي أجد نفسي أغوص فيه أكثر.

أكتب لأشفى، فأكتشف أنني أنزف.

أكتب لأُنسى، لكنّ كل كلمة تعيدني إليّ… إلى ذلك الطفل في داخلي الذي ما زال يبكي في الزاوية ذاتها منذ سنوات، دون أن يسأله أحد: "ما بك؟"


أحيانًا أشعر أن الحبر دمي، وأن القلم إصبعي المبتور،

وأن كل ورقة هي شاهد قبر لحلم دفنته بيدي.


مسكت القلم لأكتب همومي…

وما كنت أعلم أنني سأفتح أبوابًا كانت مغلقة بإحكام.

أبوابًا خلفها صدى بكاء، وحنين، ووحدة، ووطنٌ فقد معناه.


القلم صادقٌ أكثر من الناس…

حين شعَر بثقلي، لم يُجامِلني، بل بكى…

بكى لأنّ الكلمات كانت خنجرًا لا حبرًا،

بكى لأنّ الورق ما عاد يتحمّل،

بكى لأنّه أدرك أني لا أكتب… بل أحتضر على مهل.


كنتُ أظن أن الحزن يُكتب،

أنّه حين يتكدّس في الصدر يمكن أن يتسرّب من فتحة صغيرة في القلم،

لكنني كنت واهمًا…

فبعض الأحزان لا تكتب، بل تنسكب على شكل تنهيدةٍ طويلة،

أو نظرةٍ ضائعة، أو ليلٍ لا ينتهي.


كيف أشرح لقلمٍ لا روح له،

أنني حين أضع رأسي على الوسادة، لا أنام بل أبدأ بالانهيار بهدوء؟

أنني أُتقن التماسك في العلن، وأتفكك تمامًا في العتمة؟


كل مرة أعود فيها إلى الورق،

أحاول أن أبدو أقلّ ضعفًا،

أقلّ انكسارًا،

أقلّ ألمًا…

لكن الورق لا يُخدع، والحبر لا يكذب.


"بكى القلم قبل عيوني"…

كأنّه سبقني إلى الوجع، فهمني دون أن أشرح،

رافقني في صمتي، ولم يُطالبني بتبرير.


القلم لا يسألني: لماذا أنت هكذا؟

لا يلومني على البكاء، لا يطالبني بالقوة، لا يقول لي: "اصبر" أو "كلنا نتألم" أو "الحياة قاسية"،

هو فقط يصمت… ثم ينزف حبرًا يشبهني.


والأوراق؟

كانت في البداية بيضاء…

تشبهني قبل أن أكبر، قبل أن أتعلّم أن الوجع له ألف شكل،

لكنها الآن، صارت سوداء… لا من الحبر فقط، بل من الحزن المترسّب فيها سطرًا بعد سطر.


أكتب لأنني لو لم أفعل، لانفجرت…

لأنني إن لم أفرغ هذا الخراب، سيبتلعني.

لأنّ الوجع حين لا يجد منفذًا، يحفر في القلب حتى لا يبقى شيء.


أكتب لأني فقدت أشياء لا تُعوّض،

وأشخاصًا لا يعودون،

وأحلامًا لا تستيقظ من موتها،

وذكرياتٍ لا يمكن أن تُروى دون أن ترتجف يدي.


أكتب لأنني خائف…

نعم، خائف من أن يضيع صوتي في الزحام،

أن أموت دون أن يفهمني أحد،

أن أرحل ولا يذكرني أحد،

أن تذوب كل معاناتي في صمتٍ طويلٍ وكأنها لم تكن.


وكلما انتهيت من صفحة،

أشعر أنني لست بخير بعد،

أن هناك وجعًا آخر ينتظرني في الصفحة التالية،

أن الحزن لا ينتهي حين يُكتب، بل يتمدد…


فيا أيها القلم،

تابع بكاءك…

لا تخجل من دمعك،

لأنّ دموعك هي الشيء الوحيد الذي يُشبهني الآن.





 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology