.
قراءة متماهية: علي اليدري علمي/المغرب.
تمهيد.
على سبيل التخصيص، طالبتني صاحبة القلم منال العبادي أن انجز قراءة في روايتها "ناي يعزف ألما". تأسيسا على سابق اطلاعها على بعض قراءاتي. استجبت لطلبها على التو، معتبرا الفرصة مناسبة لتجديد علاقتي بالكتابة الروائية. مع التذكير أن قراءتي ليست بعمل نقدي وفق المنهج العلمي المعهود لدى أصحاب الاختصاص، بقدر ما هي قراءة متماهية تتوق إلى الاستمتاع بالمنثور. وكشف وتعزيز الجواهر الكامنة فيه. وطي ذلك، تقدير جهود صاحبة القلم. وتعزيز مسار الكتابة لديها. في هذا الاطار تندرج الملاحظات التي دونتها على هامش الرواية. آملها لا تخلو من جدوى عبر مساحة امتدادها.
قراءة متماهية.
الإهداء، هو رحيق العرق الذي نز. والأرق الذي عاند كي تكتمل الهالة. وشهقة انتصار الكاتب على كل المطبات. الأم الغالية محور. أين الأب!؟ سؤال مهما تستر في اللبس، ينبري مكشوفا للقارئ. محط اهتمام بصيغة اتهام في اعتباري. ولا ألزم بذلك أي أحد.
ناي تعزف ألما. دعيه شجنا على أعقاب الألم. العلة توارت وبقي منها الكدم. وكل حياتنا معركة لا تنتهي في مواجهة الخطوب. فكم نحن جديرون بالزهو لأننا لا زلنا على قيد حياة. في محطة عافية تتيح لنا تأمل المنعرجات التي قطعناها. ونتأمل أولائك الذين عاكسهم الحظ.
وبالأحرى أن يمتد التجاسر حد كتابة رواية. أول عتبة اقف عندها اعتدادي بالفعل. أغبط صاحبة القلم. فالانجاز ثروة منذورة للخلود حين يبور كل ثراء.
هي الرسالة الواحدة بعد الألفين والمائتين. يا تراها ماذا كانت مواضيع الحديث في كل ذلك الزخم منها!؟ وهل كانت هي الأخرى أيضا بدون عنوان!؟ انها هكذا بعنوان كل من يهمهم الأمر. بل هي بعنوان كل الناس، وعلى الذين قرأوها أن يبلغوا فحواها للذين لم يقرأوا. فأنا أحد الذين وصلني الخطاب. وجدتني مرمى يراعك. فاسترقت آهاتك وأناتك مسامع قلبي. لتتجدد فيه الكدمات والشقوق. مع ذلك اعذرك. فوطء الوجع يضعف عندما يتم توزيعه على أوسع نطاق.
الحاويات خزان المتلاشيات. مرآة تعكس جوهر حقيقتنا. ووحدهم المنقبون المهرة يكشفون بشاعة وجوهنا هناك. فكم هو مروع أن تعرض لنا سيدة ( أم صبحي ) ضمن المحتويات بقايا صور محروقة لعشيقين. والوجع في ذروته منعكس في عيون طفلها يجلس فوق حمار ضامر. مع ذلك لم تتخل عن انسانيتها. فالتمست المغفرة لعالم غارق في الآثام.
"سارة" التي مرت من هنا بسيارتها. توقفت لتلقي على المشهد نظرة عابرة. وتتذكر فصلا آخر من الرواية. لعلها ذات يوم تدونها. منسوجة بخيوط من نور القمر. مدموغة بالقبل التي استحالت عبقا ملازما لها في الأحلام. وفي عرض الرواية كانت مشاهد في صفحات. كانت كاعبا ترتجف على شط بحر الغرام. تترقب فارسا ينقذها من الغرق اذا ما ألقت بنفسها في هذا اليم.
"أحمد" الهائم سيرا بغير دليل. بعدما أفلت من سمائه نجمة كانت تهديه. عقد العزم على مواصلة السير. عسى الصدفة تأتيه بما عجز العقل عن تخطيطه. قوته أناقة روحه. يا حظا تخبط عشوائيا، مدهش كيف رتبت لعناق روحين هائمتين!؟ يا تراه من عثر على الآخر!؟ احمد ام سارة!؟ وتتكرر اللقاءات بنبرة الصدف. أم أن احدا ما كان يترصد بالآخر!؟ ربما المرض الخبيث الذي ينهش جسدها جعلها أكثر لهفة لمن ينصت لوجعها بصدق. فكانت منها مداهمته في غرفته الحمراء. وترقبه في مقهى. حيث تدون على مسمعه سر احتراقها.
وتتكرر اللقاءات. والحب يتطهر من كل وطر. ويرتدي حلة شفقة في غرفة تشهد حصص الاستشفاء الكيماوي. والرسائل لا تقرأ سواء. فهي للعليل وصفة دواء. تجعل الألم يتوقف ولو حينا، كأنما خجلا يفعل.
يقف هذا المقطع من الرواية عند تجيش المشاعر لدى خبين، انتصر كل منهما على وساوس ولغز سؤال الحب. وحطا قدميهما على الاجرأة. وكل يعتقد أنه اهتدى إلى ظله. فتم تدوين فيض المشاعر التي تدفقت كما حقينة سد وجدت منفذا لتتدفق.
لكن واقع تطور الأحداث سار عكس الحلم. وحمل مأساة لم تكن لتخطر على بال. الأقدار اقتادت أحمد نحو نهايته على إثر سقطته المفاجئة بالحمام. فتضاعفت برحاء سارة. يا له من قدر! نتحسس مع سارة الحزن والألم. لكن ليس بنفس المقاس. هي وحدها السابرة للأغوار. المكتوية فعليا بالنار. أمها الأقرب إلى مشاطرتها الحال. بحدسها تقرأ لغة عيونها، بقلبها تجس نبضها. وبخبرتها تدلها على آخر وصفة ممكنة. الصلاة والاستغفار.
من الحقائق الثابتة أن أفراحنا كأشخاص لا تكتمل إلا اذا شاركناها مع الآخر. وتأسيسا على ذلك، تحضر الصداقة في حياتنا حاجة فائقة الأهمية. في هذا السياق تماما تحتضن سارة رسالة صديقة لها لا كحرف مواسي. بل كمحفز لها على متابعة مسار الكتابة مبدية اعجابها بما تخطه.
ومن غير أن يكون قصدها تحريك مواجعها. انغمست سارة في استحضار لحظات من ذكرياتها. تتأرجح بين البهجة والاحتراق. فتدون بحرف حارق لقطات مسروقة من الزمن ومن عيون المتلصصين، وهي تفاجئ خطيبها أحمد بهدية " تشورت أزرق " يجعله في نظرها أرقى ما تأملته. ويأتي الرد منه على قدر المقاس، فستانا منه هدية لها يشتهيها ترتديه.
لماذا يلقي بنا الأدباء، وكتاب الروايات خصوصا في لهيب ذكريات جميلة استحالت رمادا!؟ لماذا نتلذذ قراءة هذه المشاهد ونحن نحترق في اتونها!؟ ربما ألأنهم لم يحتملوا اللهيب المتأجج بداخلهم، فيوزعونه على القراء. أما نحن، فنتحايل للانتشاء بما يرافق ذلك من بهاء.
الهذيان منها فرصة للافلات من الوجع. لكن الذاكرة تحاصرها. لا تسمح لها بمبارحة الصور والأمكنة التي تتمسك بصيانة اسمين عقدا العزم على التحليق سويا في الأفق. لكن القدر اجهض الحلم. أحمد رحل نحو المجهول. وبقيت ساة في دائرة المجهول. توثق حلما ضائعا. ارتج كياني من هول المشهد، وهي تصور كيف كان بالإمكان أن يكون لها مع أحمد طفل في عمر ابن الجيران. يشتريان له اللعب تحايلا على دلاله. أو يرافقانه في أول يوم لالتحاقه بالمدرسة. ويتعهدان حلمهما من خلاله. شخصيا، اريد أن أبكي لتصريف غصتي. أما أنت أيها القارئ، فلك شأنك.
هل جربت أن تقاوم الذكريات جيشا من الأعداء تشهر في وجهك سلاح