بقلم رنا الطويل
العداء المستور في أوساط الأدب والشعر لم يعد مجرد حالة عابرة، بل أصبح مكوّنًا بنيويًا في المشهد ، حيث يغلب منطق الصراع على منطق الإبداع، وينشغل كثيرون في تكسير بعضهم أكثر مما ينشغلون في إنتاج نصوص تبقى وتترك أثرًا.
في الظاهر ابتسامات ومجاملات، وفي الباطن طعنات مسمومة، إشاعات مدروسة، وتهميش متعمد، وكأننا لسنا في فضاء فكري إنساني بل في حلبة تصفية حسابات. هذا العداء له جذوره؛ فندرة الفرص الأدبية جعلت من كل نجاح تهديدًا لآخر، وهشاشة المهن الأدبية زرعت الخوف من الاختفاء، وثقافة السمعة والولاءات والوساطات حولت الكلمة إلى سلعة، بينما العولمة الرقمية أتاحت منصات سريعة لتصفية الحسابات وتشويه السمعة بلمسة زر.
المظاهر متعددة؛ من المديح المبطّن بالتقليل إلى حملات التشويه الممنهجة، ومن الإقصاء الخفي عن فرص النشر إلى التحالفات الصغيرة التي تتغذى على إضعاف المختلف، والنتيجة أن الكاتب أو الشاعر ينهك ويفقد شغفه، والمجال الأدبي يخسر أصواتًا نقدية جادة، والمجتمع يتلقى خطابًا هشًا بدلًا من خطاب راسخ وواعٍ.
المشهد في جوهره ليس شرًا خارجيًا بل انعكاس لضعف إنساني؛ فالخوف والغيرة والهشاشة النفسية كلها دوافع طبيعية حين لا توجد بنية مهنية عادلة تحمي حقوق الأدباء والشعراء. لكن الاستسلام لها يعني الانحدار إلى حلقة “الجميع يسقط الجميع” حتى لا يبقى أحد واقفًا.
الخطر الحقيقي أن المبدع حين يستهلك طاقته في المعارك الجانبية يخسر معركته الكبرى، وهي إنتاج نصوص تحمل قيمة، تكشف حقيقة، أو تلهب خيال الآخرين. المسؤولية هنا مزدوجة: على الأفراد أن يوثقوا أعمالهم، يبنوا شبكات دعم حقيقية، ويتعلموا مواجهة التحديات بحكمة لا بعاطفة، وعلى المؤسسات الأدبية أن تضع سياسات شفافة، لجان مستقلة، آليات تحكيم عادلة، وبرامج حماية ودعم.
أما على المستوى الأوسع، فعلينا إعادة تعريف النجاح الأدبي بحيث لا يكون صخبًا فارغًا، بل استمرارية وجودة، وتعزيز ثقافة التعاون في المشاريع المشتركة، وخلق مساحات مسؤولة تدير الخلاف بنضج، مع تعليم مهني وأخلاقي يعيد ضبط القيم. لا أحد ينتظر أن نصبح ملائكة، لكن الحد الأدنى من النزاهة والوعي قادر على إنقاذ الحقل الأدبي من أن يتحول إلى مقبرة صامتة.
وحين يطعن القلم القلم، تصبح الكلمات ميدانًا لصراع آخر أكثر قسوة وخفاء. هناك عداوات تختبئ خلف ابتسامات باردة، غيرة تتسلل في مديح مشوب بالسمّ، وطعنات تأتي لا من خصوم بعيدين، بل من زملاء الدرب، كأن البقاء لا يتحقق إلا بإطفاء صوت الآخر، وكأن الإبداع لا يتسع إلا بموت إبداع مجاور.
لكنها ليست قسوة مطلقة بقدر ما هي إنسانية منهكة، مشبعة بالغيرة والخوف والهشاشة وهاجس الاختفاء. غير أن المبدع حين ينشغل بصدّ السهام يخسر معركته الأعمق: أن يكتب شيئًا يبقى، وأن يزرع أثرًا لا يمحوه التربص. وحين تتحول الساحة إلى مقبرة صامتة، لا يسمع القارئ إلا أصداء الصراع بدل أن يتلقى نور المعنى.
إنها المفارقة ذاتها التي يحملها الورد حين أغلق الطريق، مفارقة الجمال الذي يُؤذي وهو يحاول أن يحمي، والإبداع الذي يتشوّه وهو يسعى للبقاء. وبين هذين المشهدين تتجلى هشاشة الوجود الإنساني حين يواجه أسئلته الأبدية: هل نحيا لنترك أثرًا مهما كان الثمن؟ أم نمضي خفافًا بلا أثر فننجو من لعنة التهمة؟
إذا أردنا أن يبقى المشهد الأدبي حيًا ومؤثرًا، فعلينا أن نعيد للنقاش هويته: إنسانية. لا ننتظر أن تتحول النفوس كلها إلى ملائكة؛ يكفي أن نوقف آلة التحطيم المُجمّعة ونبلّغ عن سوء السلوك حين يظهر. الاعتراف بضعفنا أول خطوة، لكن الوقوف الناضج أمامه وتحويل هذا الضعف إلى بنية دعم متبادل هو ما ينقذ الإبداع والمجتمع معًا.
في النهاية، السؤال ليس عن من يسقط من، بل عن ما إذا كنا سنقف معًا حتى يبقى من يقف لكتابة التاريخ الأدبي بدل أن يعيش كفردٍ مُلاحَق في جنازته المهنية. نحن بشر لا آلات، والكرامة الأدبية لا تُستعاد إلا بإرادة مشتركة وصُنّاع قرار مسؤولين.