إب؟! مدينة لا تحتمل الحياد



.د. عبدالله عنان 

أشتاق إليك يا إب، أشتاق كما يشتاق منفيٌّ إلى ظله، وكما يشتاق جريح إلى صوت أمه وهو يناديه. أيها الناس، لا تطلبوا مني أن أكون موضوعيًا وأنا أكتب عن معشوقتي، فالحياد خيانة حين يكون الحديث عن مدينةٍ تمشي في دمك. إنها لم تكن مدينة، إنها خيانة لوصفها هكذا، إنها اختبار دنيوي لكل من مرّ بها، إما أن تعترف أنك أسيرها، أو تظل تكذب على نفسك وتدعي أنك مجرد عابر سبيل. وكل من ادّعى الحياد في حضرة إب، سقط أمام أول زخة مطر، أول وجه فتاةٍ منبثق بتفاحة وجنتيها المحمر يطلّ من شرفة، وأول غيمةٍ تسند نفسها على كتف جبل. أما عن فتياتها، أكتبهن وأشعر أنني أفضح سرًّا لا يجوز أن يُقال، كأنني أرفع الغطاء عن ماءٍ يخبئ عطش العالم. جمالهن لم يكن ترفًا للعين، إنما صدمة للروح. جمالهن لا يمرُّ بك مرورًا عابرًا، إنها تمسكك من عنقك وتجبرك أن تعترف أنك مهزوم أمام ابتسامة الجميلة. في وجهها سترى بياض المساء، وفي شعرها سترى سواد الليل الذي يهبط ليغطي كل شيء جميل لكي لا يراه أحد. هذه المدينة لا تعرف أن تكون محايدة، هي الحب والخذلان في آن واحد، هي الغيم حين يتحول إلى مطر، وهي الجرح حين يرفض أن يندمل. تمشي في شوارعها فترى البسطاء يضحكون بوجوهٍ أنهكها الفقر، ومع ذلك يحتفظون بكرامة لا تشتريها كل خزائن الخليج. تسمع صدى الأغاني القديمة من مذياعٍ صدئ وتشعر أن الزمن توقف هنا كي يحفظ للمدينة ملامحها. أكتب عنك يا إب وأنا غريب عنك، وكل غريب عنك منفي. ما جدوى المدن الأخرى إن لم تكن أنت؟ ما معنى الطرق الطويلة إن لم تؤدِّ إليك؟ لقد جرّبت الغياب عنك فاكتشفت أن قلبي بلاك مجرد حجر ثقيل في صدري. إب، أيتها الفضيحة الجميلة، أيتها الفتاة التي لم تعترف بحبها لكنها تركتني أتعذب من ابتسامة واحدة. أيتها المدينة التي إذا دخلتها لا تعود كما كنت، وإذا خرجت منها لا تخرج منك أبدًا. فليقل الناس ما يشاؤون: أنني أبالغ، أنني أفتعل الحنين، أنني أكتبك كما يكتب عاشق امرأةً لا يجرؤ على إعلان اسمها، فليقولوا… لكنهم لن يفهموا أنها لم تكن مدينة، إنما قدرٌ يتورط فيه كل من لمس ترابها وراء فتياتها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology