بقلم منال العبادي
تمثل القصة القصيرة جداً (ققج) واحدة من أكثر الأجناس الأدبية حداثةً وتكثيفاً، حيث تختزل العالم في بضع كلمات قليلة، لتقدم لقارئها ومضة سردية مكثفة تحمل في طياتها دهشة المفارقة وعمق الدلالة. لقد نشأت كرد فعل على تسارع إيقاع الحياة وكمية المعلومات الهائلة، فجاءت لتثبت أن الفكرة العظيمة يمكن أن تولد في مساحة صغيرة، وأن الفن القصصي لا يقاس بالكم بل بالكيف وبقدرة النص على إثارة التأمل.
بدايةً، هذا نص مكثف يحمل طاقة درامية كبيرة، رغم قصره.
من ناحية التكثيف النص هو نموذج ممتاز للتكثيف والاختزال، حيث يحمل في سطرين فقط قصة كاملة ومشاعر متعددة الطبقات.
الجزء الأول ("على الجدار رسم بابا") يخلق صورة بصرية قوية ومحملة بالدلالات.
كلمة "رسم" توحي بأن الباب غير حقيقي، إنه وهم أو أمل، هذه الجملة وحدها تثير أسئلة عديدة من الذي رسمه؟ ولماذا؟ أهو طفل؟ أم شخص محاصر؟ فيفتح ابوابا للأسئلة عن الشخصية الفاعلة.
أما الجزء الثاني ("وانشغل بترتيب حقائبه") ينقلنا فجأة من عالم التخيل (الرسم على الجدار) إلى عالم الواقع الملموس (ترتيب الحقائب) فعل "انشغل" يشير إلى تركيز كامل على مهمة عملية، ربما هروبًا من واقع ما أو معايشة الوهم كواقع أو أنه أمل غير ملموس.
وكانت قوة التكثيف حيث نجح النص في تقديم حالة إنسانية معقدة (التعلق بالأوهام مقابل مواجهة الواقع) في أقل عدد ممكن من الكلمات ، مما يترك للقارئ مساحة كبيرة للتأويل وهذه المساحات الفارغة هي من كسر البعد الرابع بين النص والقارئ.
المفارقة هنا هي جوهر النص وتكمن على عدة مستويات
مفارقة بين الوهم والواقع فالشخص ينظر إلى "باب" مرسوم (عدم القدرة على المغادرة حقيقةً) بينما يستعد للمغادرة فعليًا (بواسطة الحقائب) أما الباب الحقيقي هو المغادرة، أما الباب المرسوم فهو ربما الباب الذي كان يتمنى استخدامه لكنه لم او لا يستطع تجاوزه.
و مفارقة بين البساطة والعمق فعل "الرسم" يبدو بسيطًا وطفوليًّا، بينما فعل "ترتيب الحقائب" يبدو جادًا وحاسمًا وهذا التناقض يخلق توترًا دراميًّا.
واما مفارقة الانشغال من حيث الانشغال بعملية الترتيب الروتينية (ترتيب الحقائب) يتناقض مع الضخامة العاطفية للحدث نفسه (المغادرة أو الرحيل)،إنه انشغال بالصغير لتفادي التفكير في الكبير.
القفلة هنا مدهشة بالفعل وتكمن في السطر الثاني "وانشغل بترتيب حقائبه". مفعول الصدمة فالقارئ، بعد السطر الأول، قد يتوقع استمرارًا في جو الخيال أو الحنين أو الحلم. لكن المفاجأة مع السطر الثاني الذي يقطع هذا الجو فجأة ويطرح سؤالاً وجوديًّاإذا كان يستعد للمغادرة، فلماذا يرسم بابًا على الجدار؟ أهو توديع؟ أهو حلم لن يتحقق؟
وقد كان خلقا للغموض الإيجابي القفلة لا تقدّم إجابة، بل تفتح أبوابًا من التساؤلات. لماذا يرحل؟ وإلى أين؟ وما علاقة الرسم بالرحيل؟ هل الرسم هو ما تركه خلفه؟ أم أنه كان يحلم بالهروب من ذلك الباب الوهمي لكنه اضطر للهروب من باب حقيقي؟
تميز النص المكثف في انزياح المشاعر حيث يحوّل النص مشاعر القارئ من فضول بسيط ("رسم بابا") إلى صدمة أو حزن مكتوم ("انشغل بترتيب حقائبه") وهذا الانزياح هو ما يصنع دهشة القفلة.
هذا النص ققج كاملة مكتملة العناصر في سطرين، يستخدم التكثيف لبناء عالم غني، والمفارقة لخلق عمق درامي، والقفلة المدهشة لصدم القارئ وإشراكه عاطفيًّا وفكريًّا، يذكرنا بأسلوب قصيدة الهايكو من حيث القدرة على اختزال لحظة مكثفة تحمل عالمًا من الدلالات.
نجح النص في تحقيق التوازن بين الغموض والوضوح الدرامي، مما يجعله نصًّا مفتوحًا على تأويلات متعددة وقويّ التأثير.
تُعد القصة القصيرة جداً (ققج) تحدياً حقيقياً للمبدع، فهي اختبار لقدرته على صياغة عالم كامل في حيز ضيق، وقدرته على إدهاش القارئ وإشراكه في عملية الخلق. إنها فن الكلمة الوامضة التي تنير الزاوية المعتمة، والفكرة التي تظل تدور في الرأس حتى بعد الانتهاء من قراءة السطر الأخير.