من الأدب الوبائي في الإسلام عام طاعون عمواس (5)

 



خليل زعتره

مع نهوض الإسلام وبسببه بدأت أكبر وأهم موجات هجرة العرب من الجزيرة العربية إلى الشام والعراق ومصر في أوائل القرن السابع الميلادي، ومن أهم ملامح المشهد الجيوسياسي الذي قام به أبي بكر الصديق إرساله خالد بن الوليد إلى العراق لتأمين ثغور ومسالح على طول غرب نهر الفرات حتى تخوم الشام والعراق والجزيرة الفراتية، وهذا الفعل فتح المجال لحرية انتقال جيوش المسلمين من العراق إلى كل أنحاء الجزيرة الفراتية وشمال بلاد الشام بلا عوائق، وفصل جبهة الفرس عن جبهة الروم وقضى على أية إمكانية لقيام تحالف عسكري بينهما ضد المسلمين سواء في إقليم العراق أو إقليم الجزيرة الفراتية أو إقليم بلاد الشام.

هذا الواقع الجيوسياسي الجديد ساعد على سهولة انتقال وباء الطاعون بين هذه الأقاليم الثلاثة، ومن الناحية العملية كانت هذه هي بداية دخول جيوش المسلمين في مواجهة شرسة مع عدوين هما: "الطعن والطاعون). ووصف هذا الحال شعراً الصحابي عبد الله بن سبرة بقوله:

إن أقْلب الطعن فالطاعون يرصدني

كيف البقاء على طعن وطاعون


اتبع أبو بكر الصديق في بلاد الشام استراتيجية سياسية عسكرية تمثلت بالعمل على إخضاع ريف الشام لا المدن. هذه السياسة العسكرية أراد أبو بكر بها خداع الروم ليظنوا أنها غزوة سببها الجوع وحاجاتهم إلى الطعام مثل غزوات القبائل العربية السابقة. دخلت الجيوش الأربعة -جيش أبو عبيدة، وجيش يزيد بن أبي سفيان، وجيش شرحبيل بن حسنة، وجيش عمرو بن العاص- إقليم الشام في صفر 13 هـ/ نيسان 634 م، وانتشروا في أرياف دمشق والأردن وفلسطين، وهرب الناس بأمراضهم ومواشيهم  إلى المدن والأماكن المحصنة خوفاً من الموت.

بوصول خالد بن الوليد إلى الشام قادماً من العراق عبر بادية الشام (صحراء السماوة) تغيرت الاستراتيجية العسكرية، فقد حوّل أبو بكر انتباهه من السيطرة على الأرياف وتوجه إلى فتح المدن الشامية، فكانت بصرى أول مدينة حوصرت وصالحت على الجزية، ثم اتجهت جيوش المسلمين إلى أجنادين. ولما انتصر المسلمون على الروم كتب بطريرك القدس صفرنيوس: "جلا الروم عن أرياف فلسطين.. وعمّت الفوضى الأرياف بأسرها"، وسار قائد الروم أرطبون في الناس إلى إيلياء (القدس)، ولحق غيرهم من الروم بقيسارية ودمشق وحمص وتحصنوا في المدن العظام.

هروب قوات الروم للمدن المحصنة أفقدهم حرية المناورة والهجوم، ونزوح الفلاحين والبدو شبه الرحل بأمراضهم ومواشيهم إلى هذه المدن خلق أحياء فقيرة مكتظة صاحبها ظروف صحية غير ملائمة وتغذية سيئة داخل هذه المدن المغلقة والمحاصرة، ومثل هذه الأحوال كانت تشكل بوادر الاستعداد العام لظهور الأمراض والأوبئة في معظم مدن بلاد الشام التي وقعت تحت الحصار، ولكل مدينة من هذه المدن بيئتها الاجتماعية وأمراضها وأوبئتها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology