بقلم الكاتب بلعربي خالد (هديل الهيضاب)
المشهد
الزنزانة مظلمة، ضوء خافت يتسلل من فتحة صغيرة في السقف. سفيان يجلس على الأرض، يرتدي زيًا برتقاليًا، يحدّق في جدار رسم عليه بأظافره سنونو يطير قد دخل من فتحة صغيرة في السقف.
سفيان : (بصوت متهدج)
"منذ ثلاث وعشرين سنة وأنا هنا..
لا تهمة، لا محاكمة، لا وجه للعدالة.
قالوا إنني خطر،رغم أنني لم أحمل سلاحًا قط.
كنت أبحث عن عمل، عن حلم، عن حياة.
فوجدت نفسي في زنزانة لا تعرف الزمن."
( ينهض ببطء، يتجه نحو الجدار، يلمس الرسم)
"كنت أرسم بفتات الفحم ماتبقى من عيدان الكبريت متناثر هناك في ساحة، باظافري وبدم أصابعي أحيانًا.
كل لوحة كانت نافذة، كل خط كان صرخة. رسمت وجه أمي، ودمعة أبي، وطفولتي في حيّنا الشعبي.
رسمت السنابل التي كانت تنمو على شرفة بيتنا، والغربان التي كانت تطير فوق رأس الوطن."
(يتوقف، يخرج ورقة مهترئة من جيبه، يقرأ)
الرسالة الأخيرة
أخي عزيز مالك،
لا أعرف إن كنت ما زلت تذكرملامحي ام لا،
لكنني أتذكرك كل يوم، حين أغمض عيني.
أذكر صوتك، وضحكتك، ورائحة خبز أمي.
هنا، في غوانتانامو، كل شيء رمادي.
حتى الأمل صار رماديًا.
أكتب لك بريشة صنعتها من عظم دجاجة،
وبحبر خلطة من الصابون والصدأ.
وعلى ورق مهترئ، خبأته في حذائي.
ألون به جدران زنزانتي،
لأقنع نفسي أنني ما زلت إنسانًا.
أكتب لك من زنزانة لا تعرف الضوء
منذ أن وطئت قدمي هذا المعتقل،
أتعلم كيف أتنفس بصمت، كيف أعيش بلا حياة،
وكيف أقاوم الموت الذي يتسلل إليّ كل يوم
لا من رصاصة، بل من الجدران.
زنزانتي ضيقة، جدرانها رمادية، رطبة، تنزّ عفنًا.
لا نافذة فيها، سوى فتحة صغيرة في السقف....
لا يدخلها إلا حين شعاع الشمس.
ومرة في الشهر
يسمحون لي بالخروج إلى ساحة المعتقل.
القفص الكبير....
فيه سماء بعيدة، لا تُلمس.
أخرج مكبل اليدين والقدمين، أرفع رأسي لأرى الغيوم،
فأبكي بصمت.
ممنوع أتحدث إلى أي سجين. ممنوع أن أبتسم، ممنوع أن أصرخ،
أن أتنفس بصوت منخفض.
نعم الحراس يراقبوننا ، يصرخون، يركلون، ويضحكون.
الطقس هنا لا يرحم في الشتاء، تتجمد أطرافي.
وفي الصيف، يتحول الهواء إلى نار، والماء لا يكفي نزلاء .
الطعام؟ قطع من اللحم لا تُعرف هويتها، أرز بلا طعم،
وخبز يابس كالحجارة.
أحيانًا أجد فيه حشرات، فأضحك، هذا ليس غريب.
لا يُسمح لي بالاستحمام إلا مرة كل أسبوعين.
وأحيانًا أقل.
جسدي يصرخ، جلدي يتقشر، ورائحتي تسبقني.
ملابسي؟ زي برتقالي، متسخ، لا يُغسل إلا حين يتعفن.
الليل؟ هنا لا ينام.
يظل يهمس لي بأصوات الغربان،
وبأسماء كانوا معي و رحلوا.
أكتب لأنني لا أريد أن أموت صامتًا.
أكتب لأنني ما زلت أؤمن أن هناك من سيقرأ رسالتي،
من سيشعر بي ، وربما سيبكي.
أكتب لأنني أحب الحياة،
رغم أنهم سرقوها مني.
أخبر أمي أنني لم أمت،
لكنني لم أعد حيًا كما كانت تعرفني.
أخبرها أنني سأغادر قريبًا،
ليس إلى الوطن، بل إلى الربيع.
وداعًا ياخي عزيزمالك،
إن عاد جسدي، فاقرأ عليه هذه الرسالة،
وإن لم يعد، فازرعها في التراب،
لعلّها تنبت حرية."
ابنكم،
سفيان سجين رقم 694
معتقل غوانتانامو
نهاية
يسقط سفيان على الأرض، يغمض عينيه، بينما صوت السنونو يرتفع في الخلفية، يغني حريةً لا تُعتقل.
