الشاعر سعيد إبراهيم زعلوك
تجري السنينُ علَيَّ
كَأمواجِ فجرٍ تلامسُ بابَ قلبي،
وتسحبُ من ليلِ حلمي
ما كانَ يوقظُ في الروحِ
رائحةَ الخبزِ وصوتَ الأمِّ
حين تفتحُ للمطرِ نافذةَ الصباح.
وفي عمقِ ذاكرتي
تنهضُ الأرواحُ ممّا تبقّى من الأمس،
تجمعُ من ظلّهِ نبضًا خفيفًا
ومن صمتهِ نورًا
يسري في صدري
كأوّلِ قطرةٍ
توقظُ عطشَ الشجر.
وأحيانًا…
تكفي رائحةٌ واحدة
ليرجعَ الذين تركونا،
ويجلسَ الماضي على كتفي
كلمسةِ أمٍّ
لم تكتملْ
ولم تختفِ.
عِطرُ السنين…
ليس زمنًا عبر،
بل نافذةٌ تعودُ فجأةً
وتُري القلبَ
وجوهًا ما زالت تتنفّسُ فينا،
وتُسمِعُنا صوتَ اللقاء
وصدى الوداع
وارتجافَ المساءِ
حين يتساقطُ من أغصانِه
ما يشبهُ العمر.
لكنّ اللحظة التي تكسرُ سكوني
هي تلك التي أدركُ فيها
أن ما فقدتُه… لم يفقدني،
وأن ما ظننتُه انطفأ
ما زال يضيءُ
في الحيّزِ الضيّق
بين نبضٍ ونبض.
نقفُ على شاطئِ العمر،
نُغمضُ أعينَنا…
فنرى الضوء القديم
يمشي إلينا
في هيئةِ همسٍ
وفي عبير نسيمٍ
وفي خفقةِ مطرٍ
تصحو بها دُروبُ الروح.
وهناك—في ممرٍّ خفي—
يمشي الماضي بلا أقدام،
ويرفع في أعماقنا شجرةً
من ليالٍ منسيّة،
تتساقطُ أوراقُها على القلب
كرائحةٍ
لا نعرفُ كيف جاءت،
ولا لماذا بقيت.
يا رب…
إن ضاقَ بنا يومٌ،
فاجعل في الذاكرة نورًا
لا ينطفئ؛
وإن أثقلَتنا السنين،
فامنحنا من رحمتك
ما يفتحُ للروح
بابًا لا يُغلق.
يا رب…
هبْ لنا سكينةً
ترافقُ خطوةَ العمر،
واجعل كلَّ رائحةٍ
مرت بنا يومًا
بركةً
تسكنُ القلب…
ولا ترحل.
