المهندسة شهد القاضي
لأنّ الذين يأتون من أجل حاجةٍ عابرة، لا يعرفون معنى البقاء بعد الشبع... ولا يملكون القدرة على الوفاء بعد الامتلاء.. الذين كانت خطواتهم نحوك ليست حبًا بك، بل بحثًا عن ترميم نقصٍ فيهم.. حين يرمّمون جرحهم بك، يتركونك تنزف وحدك، ويمضون بخفّة الذين لم يشعروا يومًا بثقلك ولا بثمن وجودك.
لو كان صادقًا لبقي، فالصدق لا يهرب بعد أن يكتمل الغرض، الصدق لا يعرف طريق الهروب، الصدق ليس موسمًا مؤقتًا ينتهي بانتهاء الحاجة.. ولو كان مشتاقًا لأتى، فالشوق لا يقبل أن يمر الليل ثقيلًا، لا يقوى على النوم على وسادةٍ بلا حضور، لا يحتمل المسافات وكأنّه يتنفس في فراغٍ بلا هواء.. ولو كان غاضبًا لاشتكى، لأن الغضب في القلب المحب ليس سلاحًا للقطع، بل محاولة للفهم... محاولة للعودة لا للهرب... محاولة لقول: "أنا أتألم لأنّك تعنيني".. ولو كان محبًا لبكى، لأن الحب حين يشتدّ، لا يدّعي الصلابة، بل يبكي كالأنهار التي كلما ازدادت عذوبتها... زاد فيضها.
أمّا أولئك الذين اكتفوا ثم اختفوا... فاعلم أنّهم لم يكونوا يومًا قائمين عليك، بل قائمين على مصلحتهم... كانوا مجرد عابري مواسم، دخلوا حياتك كضيوف، لا كأهلٍ للبيت.. كانوا يبحثون عن دفءٍ مؤقت، عن كتفٍ يستندون عليه حين تنهار أصواتهم في الداخل، ثم حين يستعيدون قوتهم... يفتحون الباب ويرحلون دون حتى كلمة وداع.
إنّ للنفس البشرية دهاءً عجيبًا حين تريد أن تبرر خذلان غيرها... تظل تقول: ربما تعبوا، ربما ضاقت بهم الدنيا، ربما الظروف... ربما... ربما... لكن التجربة في النهاية تقول الحقيقة بوضوحٍ لا يقبل الالتواء: الذين يحبّون، لا يختفون.. والذين يغادرون دون كلمة، لم يكونوا يومًا أبناء الطريق، بل أبناء المصلحة.
إنّ الوفاء لا يقاس بعدد الرسائل، ولا بعدد اللقاءات، ولا بطول الأيام التي أمضيتموها معًا... الوفاء يقاس بحضور الروح حين تغيب الأجساد، يقاس بالقدرة على أن يبقى الإنسان صادقًا حتى حين لا يحتاج شيئًا.. فالمحب الحقيقي لا يغادر حين يستقر قلبه، بل يُكثّف حضوره أكثر لأنه وجد ما كان يبحث عنه فيك.
فلا تحزن حين ترى من كان يومًا قريبًا... يمشي مبتعدًا وكأنه لم يعرفك... لا تبكِ على الأبواب التي أُغلقت فجأة، ولا على الطرق التي أدارت ظهرها لك، ثم لم تعُد يومًا.. البعض خسر وجوده في حياتك... لا أنت الذي خسرت حضورهم.. البعض حين رحل، ترك مساحة أنقى، أوسع، أصدق... لمن يستحق أن يجيء حقًا.
تعلّم بعد اليوم أن لا تحاسب القلب على بكائه... بل على قدرته على تمييز من يستحق بقاءه.. وأن الحب الحقيقي... لا يُقاس بمدة المعرفة، بل بعمق الثبات.
وإن سألوك يومًا: ما أصعب درسٍ تعلّمته؟
فقُل: أن الحقيقة كانت دائمًا أبسط مما نتخيل... الذي اكتفى، اختفى.. ومَن كان صادقًا، عاش في القلب مهما اشتدت عليه الأيام.. والذين يبقون بعد الاكتفاء... هم وحدهم الذين كانوا يستحقون أن يُسمّوا “أهل المكان”.
