حسن غريب أحمد /ناقد روائي شاعر
مفتتح إجرائي :
النص بوصفه مشروعاً للتحرر الذاتي
تُعدّ رواية "داليدا" للروائية الأردنية دينا العزة عملاً سردياً يطرح إشكالية العلاقة بين الوعي المأزوم للذات الأنثوية والسلطة البطريركية المُطلقة.
لا تقتصر الرواية على سرد تفاصيل الحياة المشتركة القاسية، بل تتخذ من الوباء والموت أدوات تفكيكية ضرورية لإحداث تحول جذري (Transformation) في بنية الوعي.
تهدف هذه الرؤية إلى سبر أغوار النص، وتفكيك آلياته السردية والفلسفية، والكشف عن خطاب التحرر الكامن خلف الأحداث الظاهرة، مستندة إلى مفاهيم النقد الثقافي وتحليل الخطاب السردي.
إن النص هنا ليس مجرد حكاية، بل هو مشروع خطاب نسوي مُضاد (Counter-Discourse) يُعيد تعريف القوة، الكتابة، والوجود في مواجهة القيد والعدم (1).
الفصل الأول: البنية السردية والتحولات الرمزية:
يُبنى النص على تقنيات سردية مكثفة تخدم فكرة التفكيك والنهوض:
1. العبور من المونولوج الوجداني إلى اليقين المعرفي:
يهيمن على السرد أسلوب المونولوج الداخلي، ولكنه ليس مونولوجاً عاطفياً ساذجاً، بل هو استراتيجية لتوليد المعرفة (Epistemology). تبدأ داليدا رحلتها في متاهة من التناقضات ("لم أعلم أهي دموع الحنين والشوق أم الندم والخوف من الموت")، وتنتهي بيقين حاسم ("انهاض ورواية داليدا ستنهض على أقدامها"). هذا التحول يُعدّ دليلاً على أن اللغة الداخلية في الرواية هي مُختبر لتنقية الذات من الشوائب العاطفية التي فرضتها عليها تجربة يوسف.
2. الزمان المُعلّق وتفكيك علامات الترقيم (الميتاسرد):
يُوظّف النص علامات الترقيم كـ رموز سردية مُعقدة (1). فـ "الفاصلة" ترمز لزمن العدّة الشرعية، وهي زمن مُعلّق أو "برزخ وجودي" (Liminal Space) لا يمكن فيه الحسم. هذا الزمن ليس زمن سكون، بل زمن تفكير وتأصيل روحي. أما "النقطة"، فتأتي مع موت يوسف، وتعمل كـ إجراء تفكيكي قصوى (Deconstructive Act)؛ فبدلاً من أن تكون النهاية للحياة، تُصبح إعلاناً عن تصفير العداد الروائي وبدء "كتاب جديد" في ذات التاريخ الذي انتهت فيه العدّة الشرعية. هذا التناغم بين البداية والنهاية هو رسالة قدرية تُغني البنية السردية بالدلالات الميتافيزيقية.
3. الجسد كـ أرشيف والطفل كـ "تعويض رمزي":
يُحلل النص الجسد كـ أرشيف للتجارب المُعنَّفة (4). فالإجهاض القسري لطفلها، الذي مارسه يوسف، لا يمثل عنفاً جسدياً فحسب، بل يمثل محاولة لمحو الامتداد البيولوجي المستقل لداليدا. تأتي ولادة روايتها "داليدا" لتكون التعويض الرمزي لهذا الفقد البيولوجي؛ فالنص يصبح هو الطفل الفكري الذي يولد من رحم المعاناة، محوّلاً الخراب إلى بناء، ومستخدماً الإبداع كفعل مقاوم (3).
الفصل الثاني: النقد الثقافي وفلسفة التحرر:
يتعمق النص في نقد الأنساق الثقافية المُهيمِنة على مفهوم العلاقة والتحرّر:
1. يوسف ونموذج "الملكية المرضية":
يُقدم يوسف كنموذج للـ "ذكورية الهشة" (Fragile Masculinity) التي لا تستمد وجودها من القوة الذاتية، بل من إخضاع الآخر والتهديد المستمر. جنونه وخيانته وتملكه يمثلون الـ "سلطة البطريركية العاطفية" التي تُصرّ على الاحتلال الروحي والجسدي (4). موت يوسف هنا هو إفلاس فلسفي لهذا النموذج، حيث يثبت النص أن القوة المستمدة من القيد هي قوة زائفة تنهار أمام تحدي الوجود.
2. العمة: وكيل السلطة المُجتمعية:
تُمثل العمة النسق المجتمعي القاسي الذي يرفض الاعتراف بالبراءة الأنثوية، ويملأ فراغ الفشل الذكوري بـ اتهام المرأة بالمسؤولية عن الموت. مطالبة داليدا بالإرث تصبح فعل سياسي مُضاد، ليس بدافع مادي، بل هو رفض لإلغاء الحقوق في زمن الضعف، وإصرار على استعادة الكينونة (7).
3. نقد مفهوم التحرر والمساواة:
تنتقد داليدا التفسيرات المغلوطة للتحرر، مُعلنة أن التحرر ليس انحلالاً، بل هو تصالح مع الفطرة السليمة (7). فلسفتها للتحرر تتجه نحو التحرير الروحي الذي يتجسد في الإيمان (الصبر والصلاة) والعودة إلى الشريعة التي تُرسي المساواة بين الذكر والأنثى في الحقوق والجزاء، بعيداً عن أعراف "التحضر الاستعماري". هي تسعى لإعادة "موازنة العناصر الخاملة" في الذات لتكون "النور يستمد منها الأمل".
الفصل الثالث: الأفق الروحي وبناء الذات الجديدة.
ينتهي النص بإعلان داليدا عن ميلاد ذات جديدة مسلحة بالوعي:
1. التعويض القدري وخطاب الوعي:
يُعدّ فرات (عاشق صوتها) نهاية مُعلّلة سردياً وروحياً (6). مجيئه بعد انتهاء العدة، وعبر النص (التعليقات على صفحتها)، يمثل انتقالاً من علاقة قائمة على التملك (يوسف) إلى علاقة قائمة على الاعتراف والوعي والتقدير الفكري. فرات لا يُريد جسد داليدا، بل يُريد "الريم الشاردة من الوجع" والتي أصبحت سيدة على نفسها.
2. الذات الجديدة (The New Subjectivity) كـ "سيدة ذات آفاق واسعة":
تعلن داليدا عن هويتها الجديدة: "أنا داليدا الآن، ناضجة التجربة... لا أقبل أن تظلم الرجل لمجرد تجربة مررت بها". هذه الجملة ليست دفاعاً، بل هي مؤشر على التوازن الذي حققته، حيث لم تجعل من تجربتها الفردية حكماً على جنس بأكمله. الذات الجديدة هي ذات متوازنة، قوية بالحق، ترفض أن تكون "متسوّلة القوة" أو العاطفة.
خاتمة رؤيتي النقدية:
تُثبت رواية "داليدا" أن التجربة الأدبية الجادة تتجاوز حدود الواقعية المباشرة لتخلق عالماً رمزياً مشحوناً بالدلالات. لقد نجحت دينا العزة في تحويل مأساة شخصية إلى منصة خطابية تدعو إلى التحرر الفكري والروحي، مؤكدة أن الإبداع هو الفعل الأكثر مقاومة لـ "خراب الداخل"، وأن المرأة الواعية قادرة على "افتتاح كتاب جديد" حتى بعد أن يضع القدر على فصلها الأخير "نقطة".
المراجع والمصادر المُقترحة:
ديريدا، جاك. الكتابة والاختلاف. ترجمة أنور مغيث، دار شرقيات. (للإشارة إلى التفكيك وعلامات الترقيم).
جينيت، جيرار. أشكال الخطاب. (لتحليل تقنيات المونولوج الداخلي).
الخطاب الثقافي: سعيد، إدوارد. الثقافة والإمبريالية. (لتحليل أشكال الهيمنة).
الدراسات الجندرية: كريستيفا، جوليا. قوى الرعب: مقالة في النبذ. (لتحليل الوجدان المضطرب والجسد).


