بقلم الكاتبة الصحفية/ سهام فودة
أحيانًا لا يأتي الانطفاء كعاصفة تُطفئ كل شيء بضربة واحدة، بل يتسلّل كصمتٍ ثقيل، يزحف على الروح خطوة خطوة، حتى تشعر أن الضوء الذي كنت تحمله بداخلك بدأ يخفت دون مقدمات واضحة. تستيقظ ذات صباح لتدرك أن العالم من حولك تغيّر، ليس لأنه تغيّر حقًا، بل لأنك أنت لم تَعُد ذلك الشخص الذي كنت تعرفه.
الأماكن التي كانت تُشبه دفء صدرك أصبحت محايدة باردة، والوجوه التي كانت تملأك بالألفة صارت عابرة لا تترك أثرًا، والمشاعر التي كانت يومًا وطنًا، تحوّلت إلى ظلال باهتة لشيء كان حقيقيًا ثم تلاشى.
هكذا، ملامح وطن لا يعود وطنًا، وملامح قلوب لا تعود تنبض لك، وملامح حياة تسير فيها كعابرٍ مجهول… جسدٌ يمشي وروحٌ تلوّح من بعيد.
وتحاول التظاهر بالقوة، تمسك أوجاعك بين يديك كمن يمسك كأسًا فارغًا ويقنع نفسه بأن بداخله ما يكفيه.
لكن الحقيقة؟
أن داخلك شيئًا ما انكسر بطريقة لا صوت لها، كزهرةٍ ذبلت بصمت ولم يلحظها أحد.
والوصول إلى هذه المرحلة لا يكون الألم فيه في الفقد، بل في التيه… في أنك لم تَعُد تعرف ملامحك بين كل تلك الملامح. تشعر أنك الغريب الذي يسكن حياته ولا ينتمي إليها، كظلٍ يمشي بلا صاحب، أو قلبٍ فقد بوصلته في منتصف الطريق.
ومع ذلك، وفي قلب هذا الرماد، تظل هناك بقعة صغيرة عصيّة على الانطفاء… قبس خافت لكنه موجود، يشبه نافذة مفتوحة في غرفة خانقة، أو نفسًا يتيمًا في صدرٍ مُنهك.
ذلك الجزء الذي ما زال قادرًا على النور، على النهوض، على إعادة تشكيل ذاته من حطام الأيام.
ابحث عنه.
اقترب منه.
لملم شتاتك بيدين مرتعشتين، لا بأس… المهم أن تلملم.
وقل بقلب يشتاق إلى نفسه قبل أي شيء:
«اللهم رُدّ إليّ نفسي ردًّا جميلًا، وأعد لقلبي ما فقده من حياة.»
لأن الأرواح – مهما تعبت – لا تستسلم تمامًا. ولأن الله يترك داخل كل قلب سراجًا صغيرًا، لا ينطفئ مهما اشتدّ ليل الطريق.
اللهم اجعل في قلوبنا نورًا لا يخبو، وسكينة تسع العالم، وحنينًا لطيفًا يعيد لنا ما ظننّا أننا فقدناه إلى الأبد.
فهناك دائمًا حياةٌ تختبئ خلف الألم… تنتظر فقط أن نفتح لها الباب.
