الجزء الثالث: "عالم الصف الأخير"

 


قصة قصيرة المهندسة شهد القاضي 

في مساءٍ كئيبٍ، بعد عشرين سنة من اختفاء ليان، جاء شاب يُدعى كريم، صحفيّ فضولي، ليسمع عن أسطورة المدرسة المهجورة.. قال سكان القرية إن كل من دخل الصف الرابع في الليل يسمع همسًا لا ينقطع، ويرى دفاتر تُفتح وتُغلق وحدها.


دخل كريم المبنى مع مصباحه اليدوي، خطواته تصطدم بصدى صرير الأرضيات الخشبية.. وصل إلى الصف الرابع، فوجد المقعد الأخير، والدفتر، مفتوحًا على صفحة فارغة، لكنه ينبعث منه نور باهت.

اقترب بحذر، وإذا بالدفتر يبدأ بالكتابة من تلقاء نفسه.

 “أهلاً بك، كريم... كنا ننتظرك”

تجمّد، ثم نظر حوله.. الصف بدأ يتحوّل تدريجيًا، الحيطان تتلاشى، والأرض تصبح شفافه كأنها بحرٌ من ضبابٍ أسود.. الأصوات بدأت تتجمع من كل زاوية: ضحكات الأطفال، همسات، طرقات أقلام، وهمسات ليان:

“الصفّ الأخير... ليس مكانًا، إنه حالة.. من يجلس فيه يكتب اسمه في دفتر الخلود”

تقدم كريم خطوة إلى الأمام، فظهر ظلّ ليان بوضوح: طفلة صغيرة، شعرها الأسود يلامس الأرض، عينها تتوهج كالليل.. قالت بصوتٍ خافت لكنه صارخ داخليًا:

 “أنت تبحث عن الحقيقة؟ كل من يعرفها يصبح أحدنا.. لا خلاص، إلا بالكتابة”

حاول كريم الهرب، لكن الأرض تحت قدميه صارت مموجة، كأنها تحمله إلى الداخل.. في لحظة، وجد نفسه جالسًا على المقعد الأخير، الدفتر أمامه، والقلم يتحرك في يده وحده.

حروف تكتب تلقائيًا:

 “اسمي... كريـم... اليوم انضممت... إلى الصف الأخير”

شعر بالبرد يلتف حول قلبه، وكأن أرواح الأطفال من حوله تراقبه، يهمسون:

“كل من يجلس... لا يغادر.. لكنه يسمع كل شيء، يكتب كل شيء... ويصبح ذاكرة الصف الأخير”

حين رفع عينيه، رأى وجوهًا باهتة خلفه، أطفال من زمن بعيد، كلهم ينتظرون دوره في الدفتر.. ليان جلست إلى جانبه، تبتسم، وقالت:

“الدفتر لا ينتهي.. وكل اسم يُكتب، يظل هنا... للأبد”

صرخة خرجت من أعماقه، لكن لم يسمعها أحد، سوى همسات الصف الأخير:

 “الصف الأخير يسمع، ولا ينسى، والدفتر لا يكتفي باسمٍ واحد... والآن، أنت واحدٌ منا”

في الصباح، عثر الحارس على المبنى فارغًا، ما عدا دفتر صغير مفتوح على الطاولة.. صفحاته امتلأت باسم جديد: كريم..

والمقعد الأخير؟

فارغ... لكنه ينبعث منه ضوء خافت، كأن حياة جديدة بدأت داخله.

حتى اليوم، من يمر بجانب المدرسة المهجورة، يسمع همسات خافتة:

 “اكتب اسمك... الصف الأخير يسمع... والدفتر لا يكتفي أبداً”

الصف الأخير ليس مجرد فصل في المدرسة، بل رمز للذاكرة، للذنب، وللعالم المخفي الذي نتركه وراءنا.. كل من يجلس فيه يشارك في دورة لا تنتهي، حيث يصبح حارسًا للأرواح، كاتبًا للأسماء، مستمعًا لكل ما لم يُقال... وعاشقًا للرعب الذي لا ينتهي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology