مجلة "سُرى" الثقافية… صعودٌ نحو القمّة في رحلتها الثانية عشرة مع الحرف والجمال



بقلم: د. تهاني رفعت  بشارات


حين تشرق الكلمة من رحم الصدق، وتولد الفكرة من نبع الإخلاص، تولد معها منابر تبقى وتزهر رغم تغيّر الأزمنة، لأنها لا تُكتب بالحبر وحده، بل بنبض القلب ونقاء الروح. وهكذا هي مجلة "سُرى" الثقافية، التي تمضي بخطواتٍ واثقةٍ نحو اتساع الحلم الثقافي، لتؤكد في عددها الثاني عشر (تشرين الثاني 2025) أنها لم تعد مجرد إصدارٍ أدبيٍّ، بل أصبحت منارةً للفكر والإبداع العربيّ الأصيل، ومنبراً يحتفي بكل قلمٍ يؤمن أن الحرف مسؤولية ورسالة، وأن الأدب هو الوجه النقيّ للإنسان.

منذ الصفحة الأولى، يأخذ القارئ في حضن هذه المجلة دفء اللغة وصدق النية. فـكلمة هيئة التحرير تأتي كنبراسٍ يضيء الطريق، إذ كُتِب فيها:

"تمضي "سُرَى" الثقافية في عددها الثاني عشر بعزم واثق نحو اتساع الحلم الثقافي حاملة بين صفحاتها نبض القلب والفكر

والإبداع.

وتظل "سُرَى" منبرًا للجمال

وصوتاً للينابيع ومساحة تحتفي بكل فكرة تثير الخاطر."

ما أجمل أن تبدأ القراءة بكلماتٍ تحمل رائحة الإصرار، وتغمر القارئ بإحساسٍ عميقٍ بأن وراء هذا العمل أياديَ مؤمنة بأن الأدب ما زال قادراً على إعادة التوازن إلى هذا العالم الصاخب، وأن الثقافة يمكن أن تكون جسراً نحو النور لا مجرد ترفٍ لغوي.


هيئة التحرير… نُخبةٌ من الحرف والوعي

تزدهي صفحات المجلة بأسماءٍ أضاءت فضاءها، فكانت كلّ زاويةٍ فيها بصمةً خاصة. يقف على هرم هذا العمل الأستاذ محمود خضر الشبول، رئيس تحرير منصة ومجلة "سُرى" الثقافية، الذي يكتب كلمة العدد بحسّ العارف وعمق المفكر، لتأتي كأنها توقيع المجلة على وعدٍ جديدٍ مع القارئ بأن القادم أجمل.


وتتوالى الصفحات كلوحةٍ فنيةٍ رسمتها أقلامٌ مبدعة:

الكاتبة والسيناريست رضوى رضا التي أعدّت ملف ضيف العدد بحوارٍ راقٍ يليق بوجوه الثقافة، بلغةٍ رصينةٍ تمزج بين دفء الحوار وعمق الفكرة.

الكاتبة الصحفية سهام فودة التي تنسج في زوايا "مكان وأثر" و"سيرة مبدع" خيوطاً من ذاكرة المكان والإنسان، لتعيدنا إلى أصل الجمال في الحكاية والأثر.

الأستاذة فدوى نجم التي تمنحنا عبر زاويتها "عصير الأدب" جرعاتٍ مكثفة من الفكر الناضج، بأسلوبٍ يجمع بين الرصانة والمتعة.

والفنانة التشكيلية إيمان السعودي التي لم تكتفِ بزاوية "فنان وأثر" بل أبدعت في تصميم وإخراج المجلة، لتجعل من الشكل مرآةً أنيقة للمضمون، ومن الغلاف وعداً بالجمال قبل أن يبدأ القارئ رحلته بين الصفحات.




ولا يمكن أن نغفل أسماء الكوكبة التي تشكل قلب المجلة النابض:

الاستاذ محمود الشبول، الاستاذ محمود الكفيري، الكاتبة رضوى رضا، الكاتبة سهام فودة، الشاعرة مروى قره جه، الإعلامية بيان مقبل، والأستاذة فدوى نجم، وجميعهم جسّدوا بفكرهم وإخلاصهم معنى التعاون الثقافي الحقيقي.


أدبٌ نابضٌ بالحياة… وشعرٌ يليق بالروح

ما بين القصيدة والقصة والمقالة، يشكّل هذا العدد لوحةً مكتملة الألوان، تتعانق فيها الأصوات النسائية والشعرية والفكرية في انسجامٍ بديع.

ففي القسم الأدبي، تزهر قصائد الشاعرات ميادة مهنا سليمان بقصيدتها "مجرمة حب"، وإنعام صيام بقصيدتها "إليك أعني وأسمي يا جارة"، وغنوة مصطفى في "استمدّ يقيني"، ورشا طرابلسي في "حرريني"، وصديقة علي رابعة في "الحب في الأرض"، لتتشكل من هذه القصائد أنشودة حبٍّ إنسانيٍّ يُعيد الاعتبار للأنوثة المبدعة التي تكتب بالضوء لا بالحبر.

ويشارك الشاعر لبيب عتيق بقصيدته "قال لي جدي ذات يوم"، التي تمزج الحنين بالحكمة، والشاعرة فاتن حسين بقصيدتها "عاشق من ورق"، ليؤكد كلاهما أن الشعر لا يزال وسيلة النجاة من صخب الواقع.

وتتجلّى في صفحات المجلة نصوصٌ سوريالية وأدبية تعبّر عن عوالم الإنسان الداخلية، كتلك التي خطّتها الكاتبة عبير محمد، وخواطر أنثوية من غزة تعبق بالشجن والصمود، لتؤكد أن الحرف الفلسطيني لا يزال يقاوم بالحلم والكلمة.


من القصة إلى الفكر… تجليات الإبداع المتنوع

في قسم القصص، تتوالى الحكايات كأنها نوافذ تُطل على أرواح كتّابها: "روح يابسة" للكاتبة غادة قنطار، "معجزات الحب" للكاتبة فاتنة داود، "غرباء" للكاتبة قمر صابوني، "حين يصمت الغياب" للكاتبة رجاء عبد الهادي، و"في فضاء يشبهني" للدكتورة بدرية مانع، وكل نصٍّ منها يحمل سرّاً صغيراً عن الإنسان في صراعه الأزلي بين الحب والوحدة، وبين الغياب والحضور.

وتُتوج هذه المساحة نصوصٌ أخرى مثل "سقوط من فرط النور" لـمجيدة محمدي، و"امرأتان أنا" لـريمان هاني، و"السر المفقود" لـبلعربي خالد، و"انتقام" لـدينا العزة، إلى جانب قصص مؤثرة مثل "أنا  حبة رمل صغيرة" لـنسرين مشاعلة، و"الصديق الذي أنقذني" لـريم رفعت بطال، و"صرخات على الجدار" لـروعة محسن الدندن، التي تختزل بعمقٍ صرخة الإنسانية في وجه الألم.


قراءات نقدية ومقالات فكرية تُضيء الطريق

أما قسم المقالات والقراءات النقدية، فقد جاء أشبه بجسرٍ بين الفكر والمعرفة. نقرأ فيه رحلة تاريخية بعنوان "بيروت القديمة من حضارة الفينيقيين إلى مجد الرومان" بقلم زينة أمهر، ومقالاً علمياً بعنوان "العلاج في الأعشاب" للكيميائية ميس خضر، ليجمع العدد بين عبق التاريخ ودهشة العلم.

ويزدان هذا العدد أيضاً بدراسة نقدية بعنوان "بانوراما السرد في مجموعة من منا في رأسي" للكاتبة منال العبادي، وورقة فكرية مشتركة بين الدكتورة وفا نسيب المهتار والإعلامي بهجت سعيد من لبنان بعنوان "قضايا عصرية ونقاشات فكرية"، فضلاً عن الدراسة النقدية "الصور الدلالية في النص النثري" بإعداد الدكتور حمزة علاوي وكتابة الكاتبة غيداء راضي.

إنها صفحات تنبض بالعمق والوعي وتعيد إلى النقد الأدبي وجهه الأصيل القائم على التأمل والتحليل لا على الانطباع العابر.


الختام… شعر مترجم يفتح نوافذ على العالم

وفي ختام هذا العدد الثريّ، تأتي زاوية الشعر المترجم لتؤكد عالمية "سرى" واتساع أفقها، فتقدّم قصيدتي "المنارة" و"كأغلى ما لدي" بترجمتين منفصلتين لكلٍّ من لودميلا نده ومصطفى عبدالملك الصميدي، لتمنح القارئ فرصةً للتنقّل بين لغات العالم من خلال نافذة الشعر.


"سُرى"… حلمٌ ثقافيٌّ يسير بخطى من نور

إن العدد الثاني عشر من مجلة "سُرى" الثقافية هو أكثر من إصدارٍ دوريٍّ؛ إنه رحلة جمالٍ ومعرفةٍ متكاملة، تثبت أن الكلمة ما زالت قادرة على أن تُنير الطريق، وأن الثقافة العربية بخيرٍ ما دامت في أيدٍ مخلصةٍ تؤمن بأن الإبداع رسالة حياة.

كل التحية والتقدير لأعضاء هيئة التحرير الذين حملوا على عاتقهم هذه المسيرة النبيلة، فجمعوا بين الفكر الراقي، والعمل الجماعي، والإيمان العميق بدور الكلمة في صناعة الوعي.


إلى كل قارئٍ محبٍّ للأدب والفكر والجمال، أقول:

اقرأوا مجلة "سُرى"... فكل عددٍ منها فصلٌ جديدٌ من ملحمة الحرف العربي، وكل صفحةٍ منها نافذةٌ على ضوءٍ لا ينطفئ. اقرأوها لتتذكّروا أن في زمن الضجيج، لا يزال هناك من يكتب بهدوءٍ ليصنع الفرق، ومن يؤمن أن الإبداع هو الطريق الأجمل نحو الخلود.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

Recent in Technology