بقلم الكاتبة الصحفية/سهام فودة
ليس القلب مجرد مضخة دم، ولا حدسًا عابرًا يولد من فراغ، بل ذاكرة خفية تختزن التجارب، وتقرأ ما تعجز العين أحيانًا عن فهمه. وحين يخبرك قلبك بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، فهو لا يبالغ ولا يتوهم، بل يرسل إشارة استغاثة صامتة، اختبارًا أخيرًا لوعيك قبل أن تقع الخسارة.
في حياتنا اليومية نتعلم مبكرًا كيف نصغي للعقل، كيف نزن الأمور بالمنطق، ونقيس العلاقات بالمظاهر، ونؤجل القلق بحجة حسن الظن. لكن ما لا يخبروننا به هو أن بعض الحقائق لا تمر عبر بوابة العقل، بل تتسلل إلى القلب مباشرة، خفيفة كنسمة، ثقيلة كإنذار. القلب لا يصرخ، لا يبرر، لا يقدم أدلة، هو فقط يقول: انتبه.
كثيرًا ما نتجاهل تلك الإشارة، لا لضعفها، بل لقسوتها. لأن الاعتراف بها يعني أن نواجه أنفسنا بحقيقة مؤلمة، أن نعترف بأن شخصًا نثق به لم يعد آمنًا، أو أن طريقًا نسير فيه لم يعد يشبهنا، أو أن حلمًا نطارده بدأ يستنزفنا بدل أن ينقذنا. تجاهل صوت القلب أسهل من مواجهة تبعاته، لكنه في الغالب أكثر كلفة.
المفارقة أن القلب لا يخطئ كثيرًا، لكنه يُكذَّب كثيرًا. نطالبه بالصمت بدعوى العقلانية، ونخدّره بالتبريرات، ونُسكنه وعودًا مؤقتة. نُقنع أنفسنا أن القلق طبيعي، وأن الشك وسواس، وأن الألم مرحلة وستمر. لكن بعض المشاعر لا تأتي لتُمر، بل لتُحذِّر.
القلب لا يعارض العقل، بل يكمله. العقل يحلل المشهد، والقلب يشعر باختلاله. العقل يرى الكلمات، والقلب يلتقط النبرة. العقل ينشغل بما يُقال، والقلب ينتبه لما لم يُقال. لذلك فإن الإنصات للقلب ليس ضعفًا ولا تهورًا، بل وعي من نوع أعمق، وذكاء إنساني لا يُدرَّس في الكتب.
في العلاقات الإنسانية تحديدًا، يكون صوت القلب أكثر صدقًا. تشعر بعدم ارتياح لا تفسير له، بثقل في الحديث، ببرود خلف الضحك، بتناقض بين الأفعال والكلمات. هنا لا يكون القلب متشائمًا، بل قارئًا جيدًا للسياق. تجاهل هذه الإشارات هو ما يجعل الخذلان يبدو مفاجئًا، بينما هو في الحقيقة كان مُعلَنًا منذ البداية، لكننا رفضنا الإصغاء.
الأمر ذاته ينطبق على القرارات المصيرية. وظيفة تسرق طاقتك، بيئة تستهلك قيمك، اختيار يبدو مثاليًا على الورق لكنه يطفئك من الداخل. حين يخبرك قلبك أن هناك خطأ، فهو لا يطالبك بالانسحاب الفوري، بل يدعوك للمراجعة، للتوقف قليلًا، لإعادة ضبط المسار قبل أن يصبح الرجوع أصعب.
الثقافة السائدة علمتنا تمجيد الصبر حتى على ما يؤذينا، وتمرير القلق باعتباره ضعف إيمان أو قلة تحمل. لكن الحقيقة أن الإصغاء للقلب شكل من أشكال الحكمة، وأن النجاة لا تكون دائمًا في الاحتمال، بل أحيانًا في الانسحاب الهادئ قبل الانهيار.
أن تثق بقلبك لا يعني أن تعيش أسير المخاوف، بل أن تحترم إشاراتك الداخلية، أن تمنح نفسك حق القلق الواعي، وحق التراجع دون شعور بالذنب. القلب لا يطلب الكمال، بل السلام. لا يبحث عن المثالية، بل عن الاتزان.
وفي زمن يزداد فيه الضجيج، يصبح صوت القلب نادرًا، لكنه أكثر ضرورة. هو البوصلة التي لا تخون، حتى إن تأخرنا في فهمها. فإن طرق قلبك باب التحذير يومًا، لا تسكته، ولا تؤجله، ولا تسخر منه. افتح الباب بهدوء، واسأله عمّا رأى قبلك، فربما كان يحاول فقط أن ينقذك.
